أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية دراسة أعدتها «ريم عبدالحليم» الباحثة فى شئون العدالة الاقتصادية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية قدمت فيها قراءة لمواد دستور 2014، المتعلقة بالجوانب الاقتصادية، موضحة النظام الاقتصادى الذي يقدمه الدستور الجديد مع تحليل منظومة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كما ترسمها الوثيقة، وما يفرضه هذا من قيود على السياستين المالية والنقدية، وعلى قواعد الاستثمار وعلاقة عنصر العمل بعنصر رأس المال. كما تتناول الدراسة بصورة أكثر تفصيلًا مجموعة الالتزامات المتعلقة بالإنفاق على الجانب الاجتماعي، وما يبني عليها من تأثيراتٍ متعلقة بالسياسة المالية والنقدية للدولة من ناحيةٍ، ومدى كِفاية هذه الالتزامات والتعهدات لحل المشكلات الفعلية التي يعانيها الواقع المصري من ناحيةٍ أخرى. وتخلص الدراسة إلى نتيجة عامة حول مدى رصانة الجانب الاقتصادي في الدستور بتوضيح ما يحمله من إيجابيات وما يُغْفله من أمور، مقارنة بدستور الجمعية التأسيسية الذى وضع فى عهد الإخوان المسلمين وتم تعطيله عقب 30 يونية. ووفق نص المادة 27 من الدستور، فإن النظام الاقتصادي يهدف إلى «تحقيق الرخاء في البلاد من خلال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، بما يكفل رفع معدل النمو الحقيقي للاقتصاد القومي، ورفع مستوى المعيشة، وزيادة فرص العمل وتقليل معدلات البطالة، والقضاء على الفقر». وأشارت الدراسة إلى أن الدستور لا يعتبر العدالة الاجتماعية هدفًا في حد ذاته، وإنما فقط وسيلة لتحقيق «الرخاء الاقتصادي»، ورغم أن «الرخاء الاقتصادي» ليس مفهومًا اقتصاديًّا محددًا، إلا أن معناه الشائع هو: النمو الكبير في الناتج، المرتبط بتسارع معدلات الاستثمار وتراكم رأس المال، ومن ثم بانتعاش الطلب على العمل وارتفاع الأجور، وهي أمور لا تتطلب بالضرورة، توخي العدالة الاجتماعية كآلية لتحقيق الرخاء. أما بخصوص التنمية المستدامة فتوضح الباحثة «ريم عبدالحليم» فى دراستها، إنها تعنى إجمالًا ضمان تحقيق الاستدامة الاجتماعية والبيئية بحيث لا يجور استهداف النمو الاقتصادي السريع على قدرة المجتمع بمكوناته وبيئته على الإنتاج والنمو في الأجل الطويل، ولذا فهي قد تعد ضابطًا من ضوابط النمو وليست آلية لتحقيقه. وأوضحت أن صياغة المادة على هذا النحو، وبغض النظر عن كونها لا تحمل معنىً اقتصاديًّا منطقيًّا، لا تفرض على الدولة ضمان تحقيق أيٍّ من العدالة الاجتماعية أو الاستدامة، ولكنها تحيل المسئولية عنهما،ضمنًا،إلى الفواعل الاقتصادية المنوط بها تحقيق هدف النمو، وأهمها القطاع الخاص، وهو التوجه الذي تؤكده صراحةً المادة 36، التي تنص على أن الدولة تعمل «على تحفيز القطاع الخاص لأداء مسئوليته الاجتماعية في خدمة الاقتصاد الوطني والمجتمع»، وهي مادة جيدة من حيث المبدأ، لكنها مطاطية ولا تحمل أي قدر من الإلزام، ولابد من تقييمها في إطار التوجه الاقتصادي العام للدستور، وهو توجه يطلق اليد، مع تقييدات بسيطة، لآليات السوق الحر والقطاع الخاص، حتى في تقديم الخدمات العامة. رفع ربط الأجر بالإنتاج فيما تنص المادة 27 كذلك على أن الالتزامات الاجتماعية للنظام الاقتصادي هي: «ضمان تكافؤ الفرص والتوزيع العادل لعوائد التنمية وتقليل الفوارق بين الدخول والالتزام بحدٍّ أدنى للأجور والمعاشات يضمن الحياة الكريمة، وبحد أقصى في أجهزة الدولة. فيما تقول الدراسة إنه من الملاحظ أن هذه الالتزامات، مع اعترافنا بتوفيرها ضوابط اجتماعية للعملية الاقتصادية، تشوبها ثغرات لا يمكن نكرانها، فعلى سبيل المثال، النص على تكافؤ الفرص، أي على إتاحة الفرص بشكل عادل لذوي المهارات المتساوية، لا يتضمن أي إلزام واضح، بتحقيق العدالة في النفاذ لأدوات تكوين المهارات واستغلالها كمطلب أساسي للاستدامة الاجتماعية. وأوضحت أن الالتزام بحد أدنى للأجور والمعاشات، وحد أقصى للأجور في مؤسسات الدولة، يفتح الباب أمام الفساد والتجاوزات، سواء من ناحيةِ أن استخدام كلمة «أجور» وليس «دخول» يتيح التلاعب في الحد الأقصى، أو من ناحيةِ أن عدم تفصيل كيفية تحديد الحدين الأدنى والأقصى وعدم ربطهما بعضهما ببعض قد يحولهما إلى أداة شكلية، ليست فعّالة لتحقيق العدالة بين ذوي الأجور. وأوضحت أن المادة بشكل عام أكثر رصانة ووضوحًا من مثيلتها في دستور 2012، حيث تخلت عن ربط الأجر بالإنتاج الذي كان من شأن تطبيقه أن تُظلم العمالة قليلة المهارة وتُحمّل نتائج مشكلات العملية الإنتاجية، هذا باستثناء تميز نص المادة المقابلة في دستور 2012 بتبنيه مصطلح «الرفاة» بدلًا من «الرخاء»، وهو المصطلح الأقرب لمعنى العدالة الاجتماعية. دعم المشروعات المتوسطة والصغيرة من ناحية أخرى، تنص المادة 28 في الدستور على أن «الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية والخدمية والمعلوماتية مقومات أساسية للاقتصاد الوطني، تلتزم الدولة بحمايتها وزيادة تنافسيتها، وتوفير المناخ الجاذب للاستثمار لها، وتعمل على زيادة الإنتاج، وتشجيع التصدير، وتنظيم الاستيراد، كما تُولي الدولة اهتمامًا خاصًّا بالمشروعات المتوسطة، والصغيرة ومتناهية الصغر في كافة المجالات، وتعمل على تنظيم القطاع غير الرسمي وتأهيله»، الأمر الذى من شأنه إلزام راسم السياسة الاقتصادية العامة بالتركيز على دعم المشروعات المتوسطة والصغيرة، وهو توجه محمود، حيث يتبنى إستراتيجية تنمية تقوم على النمو الاحتوائي الهادف إلى خلق فرص العمل، حتى ولو لم يتم النص صراحةً على استهداف التشغيل، لكن المادة تقع في المقابل في إشكالية التناقض العملي بين مقتضيات رفع القدرة التنافسية للشركات من ناحيةٍ، وآليات حمايتها وتنظيم الاستيراد من ناحية أخرى، وهو أمر كان لابد من ضبطه بتوضيح نوع التوازن المطلوب بين الهدفين المتعارضين. ضرائب تصاعدية لتحقيق العدالة الاجتماعية ومن التطورات المهمة في دستور 2014، ما تضمنته المادة المادة 38 المتعلقة بالنظام الضريبي والتى تنص على أن النظام الضريبي يهدف إلى»تنمية موارد الدولة، وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وتكون الضرائب على دخول الأفراد تصاعدية متعددة الشرائح وفقًا لقدراتهم التكليفية، ويكفل النظام الضريبي تشجيع الأنشطة الاقتصادية كثيفة العمالة، وتحفيز دورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتقول الباحثه فى دراستها ان الدستور أضاف إلى الهدف من النظام الضريبي تنمية موارد الدولة والتنمية الاقتصادية، وليس فقط إعادة توزيع الدخل، وهو تغير واضح عن التوجه الذي أقره دستور 2012، الذي نص على أن العدالة الاجتماعية وحدهاهي أساس النظام الضريبي وغيره من التكاليف العامة. واعتبرت ان هذا يعد تغيرًا إلى الأسوأ، حيث إن تنمية موارد الدولة ليست بذات معنى إن لم يكن هدفها تحقيق العدالة. وترى أن التغير الأكثر أهمية في هذه المادة فيرتبط بالنص، في دستور 2014، على تصاعدية الضرائب على الدخول، وهي بالقطع الأداة الضريبية الأكثر تحقيقًا للعدالة، من هنا يمكننا اعتبار هذه الإضافة تطورًا إيجابيًّا محمودًا، لكن عدم تحديد المادة بشكل أدق يجعلها عرضة لتفسيرات قانونية قد تفرّغها من مضمونها، بحيث قد يعتبر تغيرٌ محدودٌ في السعر بين الشرائح، مصحوبًا باتساع في الشرائح الضريبية تطبيقًا كافيًا للنص الدستوري، في حين أنه عمليًّا لا يعبر عن توجه جاد لتحقيق العدالة من خلال السياسة الضريبية. الدولة تكفل سبل التكافل الاجتماعى وخلصت الدراسة إلى ملاحظات أهمها أن المادة 8 من الدستور، رغم نصها على التزام الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية، إلا أنها حذفت النص على التزامها بتحقيق حد الكفاية لجميع المواطنين، كما كان الحال في دستور 2012، مكتفية بالتأكيد على توفير سبل التكافل الاجتماعي، بما يضمن الحياة الكريمة لجميع المواطنين، وهو ما يجعل التزام الدولة بالحياة الكريمة ليس مباشرًا، بل فقط من خلال توفيرها سبل التكافل. بشكل عام، أتى التوجه الاقتصادي في دستور 2014 أكثر وضوحًا من مثيله في دستور 2012، مؤكدًا على مجموعة مهمة من الحقوق المتعلقة بالمرأة والطفل والمسنين، وبالتعليم والصحة والمسكن والغذاء الصحي. ونوهت الباحثة ريم عبدالحليم ألى أن النظام الاقتصادي الذي يفصله دستور 2014 يميل إلى تحرير الدولة من التزامات إنفاقية متعددة مقابل اكتفائها بدور رقابي ورعاية محدودة لغير القادرين، تاركةً تقديم الخدمات للقطاع الخاص على الأجل الأطول. كما أوضحت أن المنظومة الاقتصادية التي يقدمها الدستور تحمل بعض القصور فيما يتعلق بتقديم معالجة فورية لقضايا الفقر والعدالة الاجتماعية والتشغيل، إذ تم حصر آليات مواجهة هذه المشاكل المزمنة في أداتي الضريبة التصاعدية والحد الأدنى للأجور، بدون تدقيقٍ في تحديد أوجه تنفيذ هاتين السياستين بحيث تحاصران فعلًا الفقر المتنامي. وأشارت إلى أنه في المقابل، نجد أن دستور 2014 يولي اهتمامًا أكبر للتأكيد على منهج تحفيز تراكم رأس المال والاستثمارات على أمل أن يساقط النمو ثماره على الفقراء في صورة إنفاق اجتماعي أو تشغيل لعمالة فقيرة منخفضة المهارة تعاني آثار الأزمة التضخمية الحتمية في الأجلين القصير والمتوسط. وشددت على أنه كان من باب أولى أن يضع الدستور ضمانات واضحة لتحقيق أهدافه في الإنفاق الاجتماعي من خلال معالجات مؤسسية كافية تكافح الفساد، وتقلص من مساحات التخطيط ووضع الموازنة من أعلى إلى أسفل، وتقوي مؤسسات المفاوضة الجماعية النقابية، مع العمل على فك التشابكات بين السياستين المالية والنقدية وعلى ضمان استقلال السياسة النقدية بهدف ضمان تحقيق انتعاش اقتصادي صحي.