صناعة الفرعون فن له متخصصون ومتفننون ومنافقون وطبالون وزمارون، كل هؤلاء مستفيدون، أو يتطلعون للاستفادة، وما أكثر الفراعين الذين صنعتهم الشعوب المتخلفة.. الفقيرة.. النامية، لتزاداد تحت «فرعنته» تخلفا وفقرا وترديا، وكانت هذه الشعوب نفسها ترفض الأصوات والعقول المستنيرة، التى تحاول تنويرها بحقوقها فى الحرية والديمقراطية، وتحاول رفع انحناءة رؤوسها، لأن هذه الشعوب اعتقدت، أو جبلت على الاعتقاد أن رفع الرأس يعنى قطعه، ورفع الصوت يعنى مصادرته، ورفع اليد للمطالبة بالحق يعنى بترها، فعاشت عبيد إحسانات الفراعين على مختلف المسميات لهؤلاء الرؤساء والقادة والزعماء. وأعتقد أن ثورات الربيع العربى بداية ليقظة الكثير من الشعوب العربية للتخلص من الفراعين والإطاحة بهم، وآمل الا تعود الشعوب التى شهدت ثورات الربيع العربى من جديد لخلق فراعين جدد ب«نيو لوك» تحت مسميات الشعبية الوطنية والبطولة الخرافية، إذ مفترض أننا تعلمنا دروسا قاسية مما مضى، لا تفويض مطلق لقائد أو زعيم، لا شيك على بياض لرئيس مصرى قادم، التفويض المفتوح والسلطة أو الثقة المطلقة تخرج أسوأ ما في النفس البشرية وتخلق الفرعون، وتحضرنى هنا تجربة عالم النفس الأمريكي «فيليب زيمباردو» الذى نفذ تجربة فريدة من نوعها لكشف ما يمكن أن تسفر عنه السلطة المطلقة لأى إنسان وأطلق على تجربته «سجن جامعة ستانفورد». قسم «فيليب» مجموعة الطلاب الجامعة لديه الى مجموعتين، الأولى لعبت دور «مساجين» والثانية لعبت دور «سجانين»، وعمل سجن في سرداب الجامعة ليبدو وكأنه سجن حقيقي فيما ارتدى الطلبة «السجانون» زي ضباط الشرطة، وارتدى الآخرون زى «المساجين» وتم تقييدهم بالقيود الحديدية، وكانت قاعدة التمثيلية أنه «لا قواعد تحكم»، فالأمر مطلق والتصرف مفتوح للجميع، من حق السجانين اتخاذ كل التدابير والتصرفات كما يحلو لهم، دون أي مساءلة من أي نوع، وكانت نتيجة التجربة بمثابة الكارثة الإنسانية وعلى جميع المستويات، فقد حدث تحول مرعب لدى السجانين الذين شعروا بامتلاك الحرية والسلطة وعدم المساءلة لهم مهما فعلوا، وفوجئ فيليب وهو يشاهدهم عبر شاشات المراقبة، كيف أصبحوا يتعاملون مع زملائهم بخشونة ووحشية وعنف وقسوة وتعذيب، رغم أنهم كانوا من قبل يعرفون كطلاب جامعة بالأخلاق المهذبة والهدوء والتفوق الدراسي، وقبل أن يصل الأمر ذروته الدرامية، حيث كاد الطلاب السجانون أن يقتلوا زملاءهم المساجين، اضطر عالم النفس فيليب الى وقف التجربة فورًا، وأثارت تجربته جدلا واسعا فى امريكا والعالم الغربى المتحضر، فقد أثبت ببساطة ومن ارض الواقع، انه مهما بلغ التأديب والتهذيب والرقى بإنسان، فان منحه التفويض والسلطة المطلقة «شيك على بياض»، يؤدى ذلك الى إخراج أبشع ما فى نفسه البشرية، ليتحول هذا الشخص الى فرعون..الى وحش. ورغم تجربة «فيليب» الفلسفية الاجتماعية الواقعية فى عصره، فإن جوهر تجربته سبقه اليها ما ورد فى قصص القرآن الكريم بآلاف السنين، والتى حذر فيها الله من السلطة المطلقة والطمع والجشع الإنسانى لامتلاك كل شىء بلا قيود أو حدود، فالنفس البشرية تعطى قيادها للشيطان، ليأمرها بالطمع والجشع وطلب المزيد من السلطة والمال والنفوذ بدءا من آدم الذى تناول التفاحة المحرمة طمعا فى الخلد، فكان جزاؤه الطرد من الجنة، مرورا بقصة تلك القرية، التى وهب الله اهلها نعمة لم يحلموا بها من قبل، ملكا ورزقا وفيرا يأتيهم من البحر دون جهد كبير منهم، لكنه سبحانه أراد أن يختبر قناعتهم وشكرهم لنعمه، وهو الأعلم بعباده.. فأمرهم بالاكتفاء برزقهم من البحر طيلة الأسبوع، وعدم صيد السمك يوم السبت، وهو يوم واحد فقط وباقى الأيام هى لهم، لكن الطمع والجشع، جعل فئة عظمى منهم يعصون أمر الله، ويتطلعون بطمعهم الى الصيد يوم السبت اعتقادا منهم أنهم بهذا سيملكون كل الرزق والأرض وما عليها، فنالوا غضب الله، ليسخطهم الى قردة وخنازير، ويحرمهم كليا من نعمته ومما طمعوا فيه وهو ليس بحقهم، وكان جزاؤهم ان يبقوا فوق الأرض أذلاء مهانين، فيما نجا الصالحون الذين اكتفوا بما منحه الله لهم، ولم يطمعوا أو يغلبهم جشعهم لامتلاك كل شىء على الأرض. هذه قصة أهل السبت التى أوردها القرآن الكريم عن أهل تلك القرية، فهل اتعظ الإنسان، من أن الطمع والجشع يقل ما جمع، وأنه لا يمكن للإنسان أن يملك كل شىء وحده، ولا يترك شيئا للآخرين، لا لم يتعظ، لم يتعظ المتطلعون للملك والحكم والنفوذ والسلطة والمال عبر التاريخ البشرى، لم يتعظ حتى من يزعمون انهم اسلاميون وحفظة القرآن، وحاول الإخوان الاستئثار بالحكم والسلطة والنفوذ، وإقصاء وتهميش وتكفير كل الفئات الأخرى من الشعب دون جماعتهم، فكان نصيبهم جزاء الطامعين الجشعين، أن يفقدوا كل شىء كالذين اصطادوا فى السبت، ولكن لا يعنى هذا أن كل الإخوان استحقوا جزاء أهل السبت، فمن المؤكد أن منهم الصالحون الرافضون لما جرى، ولما يحدث الآن على أرض مصر من عنف وتقتيل وتفجير وإرهاب، من المؤكد أن بينهم العاقلين الذين لم يتعمقوا فى فكرهم المنحرف ولم تشوه ضمائرهم، أو تتلاشى وطنيتهم وانتماءهم لهذا الوطن الجميل. وكما فعل الاخوان كفعل أهل السبت من الطمع والجشع ومحاولة اقتناص كل شىء لهم وحدهم، إننى على يقين بأن آخرين من أعداء الوطن من الخارج المتربصين بمصر من الصهاينة وغيرهم الكارهين لقوة مصر، الخائفين من تقدمها وازدهارها، المتربصين بحريتها وسيرها نحو الديمقراطية، وهؤلاء يستغلون حالة الانقسام المصرى الآن بين جماعة الإخوان وبين الشعب المصرى الرافض لهم، ويصطادون فى المياه العكرة، وينفذون عمليات إرهابية متمسحين بالإخوان، أو حتى مستغلين العمليات التى نفذها وينفذها الإخوان، للنفخ فى أسباب العنف والإرهاب، ولضرب مصر فى عمق.. فى مقتل. وعلى العقلاء من الإخوان أن يفعلوا كما فعل العقلاء من أهل قرية «السبت» ان ينقذوا أنفسهم، وما تبقى منهم بأيدى لم تلوثها الدماء، أن يتبرأوا مما يحدث، أن يقفوا فى صف الشعب لمحاربة أعداء الوطن، ومحاربة الإرهاب، فلا عاصم لهم اليوم إلا أن يقفوا بجانب الشعب لمواجهة هذا الطوفان والنجاة، حتى نتشارك بصورة ديمقراطية لاختيار رئيس يستحق أن يقود هذا الوطن ويكون فى خدمة كل الشعب.