لا شك في قدرة الشعب المصري علي إسقاط نظام حاكم متى جاوز ما تتيحه شرعية الإرادة الشعبية، فقد تخطى الشعب ذلك الاختبار الصعب بثورته المجيدة في الخامس والعشرين من يناير، وامتدادها التصحيحي في الثلاثين من يونيه. غير أن الرهان الأكبر يظل منعقداً علي قدرة الشعب علي إقامة نظام سياسي بديل، يلبي كافة الطموحات الثورية، ويتبني قيم الثورة، وما نادت به من مطالب شعبية مشروعة، وهي مهمة لا ينبغي الوثوق في تحققها ما لم تتواجد القدرات السياسية الحقيقية داخل المشهد الوطني. والواقع أن العقبات التي واجهت الثورة المصرية، دارجة وذائعة الانتشار في طريق الثورات الشعبية، ما يجعل منها أمراً يمكن تجاوزه إذا ما تضافرت الجهود الوطنية المخلصة، وأعلت من شأن المصالح الوطنية فوق ما عداها من اعتبارات ذاتية أو حزبية. غير أن المحيط الإقليمي والدولي يفرض علي المشهد المصري الكثير من التداعيات التي ربما ينفرد بها المشهد الوطني عن غيره من التجارب المماثلة، سواء علي صعيد ثورات الربيع العربي، أو غيرها من الثورات الشعبية التي أتاحت لشعوبها فرص التحول الديمقراطي. وليس في ذلك ما يحبط العمل الوطني، قدر ما يؤكد حقيقة الوزن النسبي للدولة المصرية، وأثرها البالغ في تحديد هوية المنطقة برمتها، بل وتحجيم الكثير من مصالح القوى الدولية المنافية لطموحات شعوب المنطقة. وليس الوطن بقادر علي مواجهة تلك التحديات دون الاستعانة بما يمتلكه من قدرات سياسية حقيقية ومخلصة من أبنائه الذين يسعون إلي دفع جهود أبناء الوطن كافة نحو المزيد من العزيمة والإصرار للحفاظ علي مقدرات الوطن، ومكتسباتهم الثورية، وهي بالتأكيد لا تلتقي وطبيعة الاستراتيجيات الحاكمة لأداء القوى الدولية الاستعمارية، بشكلها الجديد، وأدواتها وآلياتها التي تسمح لها بإنفاذ إرادتها عبر وكالات متنوعة، إقليمية كانت أو محلية، ربما يحظي البعض منها بدوره في العمل الوطني! وفق ذلك، وفي سياق مواجهة أعداء الثورة المصرية، لا ينبغي لنا أن نطيل النظر كثيراً نحو الخارج، بما يُقلل من قدرتنا علي مجابهة الداخل، وإدراك حقيقة ما يعتمل فيه من صراعات باتت تتجاوز ما درجنا علي وصفه «بالمزايدات السياسية»، في محاولة للتقليل من شأنها، وحصرها داخل مجموعة من المنافع الذاتية أو الحزبية، بعد أن بلغت حد العمل بالوكالة لصالح أعداء الوطن، وسيان إذن إن شاء بعضهم إدراك ذلك ... أو رفض عن جهل ... حقيقة ما يُناط به من دور في سبيل إنفاذ إرادة أعداء الوطن. فمثلما تُصنع السياسة الخارجية أولاً في الداخل، فواقع الأمر أن التهديدات والمخاطر التي يواجهها الأمن القومي، منشؤها ما يدور في الداخل المصري، وما يشوبه من قصور في معالجة السلبيات المتراكمة داخل الشارع السياسي، وهي حقائق غابت كثيراً عن كل تناول موضوعي من شأنه تجسيد العناوين الأبرز التي اعتلت حناجر الثورة المصرية، وما تضمنته من مضامين سياسية واقتصادية واجتماعية. فليس بيننا من يُنكر أن الثورة المصرية المجيدة في الخامس والعشرين من يناير نهضت بالأساس في مواجهة نظام مبارك الفاسد، الذي أطاح بالوطن خلفاً مسافة عشرات السنين، باعدت بينه وبين موقعه المستحق بين الأمم التي طالما اهتدت بحضارة الأمة المصرية؛ ومن ثم فكراهة حكم وإرهاب الإخوان لا ينبغي أن تتيح شراكة في الثورة أمام رموز الفساد في نظام مبارك. فليس من شك أن تسلق الجماعة الإرهابية، واعتلاءها منصة الحكم، إنما جاء مستنداً إلي ما أتاحه لها نظام مبارك الفاسد من ركائز اجتماعية، فحيثما كان الفقر والجهل والمرض تصاعد وجود التنظيم الإخواني، وقد كان مثلث التخلف ذلك حصاد حكم مبارك علي مدى ثلاثة عقود، فبينما كان نظام مبارك يتداعي، لم تذكر حناجر الثوار رغبة شعبية في اعتناق المبادئ الإخوانية؛ ولم يُستشهد أبناء الوطن الأحرار طلباً لخلافة إسلامية يذوب فيها الوطن، تحت لواء تنظيم دولي إرهابي، يصطدم بصحيح الدين الإسلامي السمح قبل تعارضه ومفهوم الدولة. واليوم، وقد أنجزنا دستورنا الجديد، ووضعنا طموحاتنا الثورية علي بداية الطريق الصحيح، يتحتم علينا تجسيد ما به من مضامين واضحة وجلية، دون مواربة أو تأجيل، فليس المشهد السياسي الوطني يحتفظ بدور لرموز الفساد في عهد نظام مبارك، وقد كان كل منهم رقماً صحيحاً، قدر جهده ونصيبه، في معادلة القهر الذي عاني منه الشعب علي مدى عدة عقود. كذلك ليس المشهد السياسي الوطني يفسح المجال أمام بقاء أحزاب دينية، لطالما كرست للفرقة بين أبناء الوطن، وأتاحت فرصاً لمكاسب سياسية غير مستحقة، استناداً إلي ما للدين من سمو لدى الشخصية المصرية علي اختلاف انتماءاتها الدينية، وهي مكاسب أتت علي حساب القدرات السياسية الحقيقية التي توارت عن المشهد الوطني، بينما الوطن أمانة في أعناقها، وها هو الدستور الجديد وقد بات نافذاً... يمنحها الفرصة للعودة إلي صدارة المشهد الوطني مرة أخرى، تحميها الإرادة الشعبية الحرة، لتبني نظاماً سياسياً جديداً بحق... يتبني قيم الثورة المصرية، وذلك هو التحدي الحقيقي، والموعد... ما تبقي من استحقاقات خارطة المستقبل. «الوفد»