لم يستطع كل من خاض التجربة الروائية الصحراوية، أن يبدع بعيداً عن قطبى التجربة، ألا وهما فضاء الصحراء الرحب والإيمان بالقوى الغيبية فيها، سواء كانوا كتابًا مصريين مثل الكاتب بهاء طاهر في واحة غروبه أو فساد الأمكنة للكاتب صبرى موسى أو ميرال الطحاوى في خبائها أو سهير المصادفة في رحلة الضباع، أو لدى كتاب عرب أمثال إبراهيم الكونى في مجمل أعماله عن صحراء ليبيا، وعبدالرحمن منيف وروايته «مدن الملح» التي تحكي قصة اكتشاف النفط في صحراء السعودية وهي مؤلفة من 5 أجزاء، وحتى الكتاب العالميين أمثال الكاتب البرازيلى باولو كويلهو في «الخميائى». جميعًا لم تستطع التجربة لديهم الفكاك من هذين العنصرين، ويظل معيار التجربة هو، لمن تبوح الصحراء بأسرارها؟ فكانت الإجابة التي اجتمعوا عليها هؤلاء الكتاب وغيرهم ممن كتبوا عن صحراواتهم، أن الصحراء لن تدعم أو تساند إلا من احترمها وأجلها، أما من جاء لينظر إليها نظرة الزائر الأجنبي المتمدين الذي حط علي أرض البداوة، كي يكتب عن حياة الصحراويين وطريقة معيشتهم وعاداتهم، بغية التركيز على الغريب من تلك العادات، ومن ثم قصها بدهشة واستعلاء، فلن تبادله الصحراء استخفافه إلا استخفافاً، مغلقة أسرارها دونه، وليذهب بمعرفته واستعلائه إلي مدينته التي أتى منها.. فالصحراء لن تخلد إلا من خلدها، ومن نظر لها كفضاء غزير متخم بالدلالات والرموز. نتذكر الحديث عن الصحراء فتذكرنا هي بكل من كتب عنها وهي من لا ينسي الجميل، فيحضرنا الأديب والسيناريست الكبير صبري موسي فيتوجب علينا اعتذاراً له، مثلما يتوجب عليه الاعتذار لنا، فنحن من لم نقرأه كما يستحق، وهو من لم يدعنا لقراءته جيداً. فنحن من خلطنا كثيراً بينه وبين معكوسه الكاتب موسي صبري، وهو من استسلم وفضل الابتعاد عن الأضواء، مترفعاً عن المتاجرة بأدبه والتسويق له، ربما بسبب عدم قدرته علي التكيف مع الواقع الأدبى ومشاحناته الفكرية، مفضلاً الهدوء والانسحاب فلم يحصل علي ما يتوافق ومكانته التي يستحقها، فلو كان يتقن فن العرض والبيع، لما كنا قرأنا اسمه في الأيام الأخيرة مصحوباً بأخبار عن الأزمة الصحية التي ألمت به، وأن القوات المسلحة قررت علاجه في مستشفياتها بعد أن أوصدت أبواب المانحين وما لاقاه من جحود من قبل البعض. ولعل هذا ما دعا الروائى إبراهيم عبدالمجيد ليقول عنه: «صبرى موسي من الجيل الذي تعلم قبل ثورة يوليو 1952 - جيل الليبرالية المصرية التي كانت تولي وجهها عبر البحر المتوسط فتعرف التسامح وتعرف أن الآفاق مفتوحة أمام الجميع فلم يقف في وجه أحد كما فعل الكثيرون من أنصاف الموهوبين الذين تعلموا في سنوات النظام الأحادى النظر وزادوا الطين بلة فاستعانوا بما هو وظيفي وأمني أحياناً ليكونوا في النور، بينما هم يصنعون الظلام. صبري موسي كان من هؤلاء الليبراليين الذين يؤمنون بقوة الإنسان وعظمته ولا يشغل نفسه إلا بما هو إنسانى جميل. وكان دائماً واثقاً بأن قدراته وثقافته هما مفتاح محبة الحياة له كما أحبها ومحبة الناس كما أحبهم. ومع ذلك فقد استقبل موسى في بداياته الأدبية بتقدير نقدى كبير، وكتب عنه نقاد وكتاب كبار كيحيي حقى، الذي ذكر كثيراً أنه بعد عرض فيلم «البوسطجى» اتصل بموسي صبري وقال له أشكرك يا صبرى لأنك جعلت مني كاتباً جماهيرياً بعد أن كنت كاتباً للمثقفين لسنوات، كذلك كتب عنه الكاتب الكبير رجاء النقاش خاصة بعد أن اقتحم عالم السينما وحملت أفلام مهمة توقيعه ككاتب سيناريو مثل البوسطجى وقنديل أم هاشم وقاهر الظلام والشيماء وأول فيلم ألوان هو حبيبى أصغر منى. وبدأ صبرى مشواره الأدبى بمجموعة قصص قصيرة حملت عناوينها طرافة مثل الرجل الذي ضحك علي الحصان -السيدة التي والرجل الذي لم- مشروع قتل جاره، ثم تتابعت إبداعات صبري مثل حادث النصف متر وهي رواية تحولت لفيلمين سينمائيين الأول للمخرج أشرف فهمي والثاني للمخرج السوري سمير ذكرى وقد لاقي الفيلم حفاوة نقدية في العديد من المهرجانات. ويقول الكاتب الطاهر شرقاوى عن «حادث النصف متر» نصف متر كافٍ لتحديد مصائرنا، البساطة هي ما تميز «حادث النصف متر» والتي صدرت في طبعتها الأولى عام 1962، رواية صغيرة بشخصيتين رئيسيتين فقط، وأماكن محدودة، هل من الممكن أن يصنع ذلك عالماً روائياً؟ هذا ما فعله صبري موسي، طارحاً ببساطة صراع الإنسان مع ذاته وأفكاره، من الذي سينتصر في الحرب الدائرة بداخلنا؟ الموروث الذي ننحي طول الوقت تحت ثقله أم الإنسان العصري المتحرر؟ سؤال لم يستطع الراوي أن يحسمه مع نفسه، حتي عندما قرر أن ينتصر للإنسان كان الوقت قد فات تماماً. لموسي أيضاً كتيب من مطبوعات روزاليوسف تحت عنوان «الغداء مع آلهة الصيد» وآلهة الصيد كما يقول موسي في مقدمة كتابه «هم الرحالة الأجانب الذين يجمعون بين الغلظة والمزاح والفضول وحب الحياة». وفي الكتيب يغدو موسي ويروح ما بين اليونان وباريس والبحيرات المرة في مصر. وإذا ما عدنا لصحراء صبري موسي، أول كاتب يحصل علي تفرغ من وزارة الثقافة ليعايش الصحراء، ويقدم كنوزها في سلسلة تحقيقات في حملة روزاليوسف، والتي لفتت نظر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فأطلق علي أثرها محافظتى البحر الأحمر والوادى الجديد، بعد أن كرمه تكريماً خاصاً، فنجد أن هناك كثيرين عقدوا مقارنات بين صحراء موسى في «فساد الأمكنة» التي حاز بها جائزة «بجاسوس» البريطانية للأدب غير المكتوب بالإنجليزية عام 1978 وبين صحراوات الآخرين. ولكن يظل لفت الدكتور نصار عبدالله إلي العلاقة بين رواية موسي ورواية «الخميائى» للكاتب البرازيلى «باولو كويلهو» من أهم ما كتب في هذا الصدد. وتتحدث «فساد الأمكنة» عن علاقة الإنسان بالطبيعة. ويحكي صبري عن ملابسات اختياره عنوان الرواية فيقول إنه هاله ما أحدثته جموع المواطنين من فوضي عارمة يوم شم النسيم عندما تركوا فوارغ الطعام وبقايا الفسيخ في كل مكان وداست أقدامهم الحشائش بلا رحمة هكذا يفعل الإنسان مع الطبيعة البكر، وهكذا فعل الملك الشبقى وحاشيته الماجنة في نهاية فساد الأمكنة عندما داسوا علي طهارة وعذرية المكان وفضوا غشاء بكارته كما فض الملك غشاء بكارة الفتاة الصغيرة. لقد صدرت «فساد الأمكنة» قبل الخميائى بعدة سنوات وتدور في عالم البحث في جبل الدرهيب في صحراء العبابدة في مصر ورحلة البحث عن كنوزها المدفونة أيضاً. تحقيقاً للأحلام التي طالما دفعت بالإنسان إلي السير في عالم مجهول محفوف بالمخاطر والكوارث، مثلما كان سنتياغو عند «كويلهو» ولقد كانت أفدح تلك الكوارث التي حاقت بنيكولا (بطل الرواية) هي وقوع ابنته فريسة لنزوات ملك فاسد مستهتر، وحين يصاب نيكولا بالحمي يتوهم أنه هو المسئول عن الجنين الذي تخلق في أحشاء ابنته ثم ولد منها، فيقول الوليد، ثم يقتلها بعد ذلك في تفجير في منجم جبل الدرهيب. وانتهى البطل من حيث بدأ رحلته عند جبل الدرهيب، مثلما حدث مع بطل الخميائى أمام شجرة الجميز. ومن أجواء فساد الأمكنة «إن مئات الخطايا الصغيرة التي نرتكبها بسهولة ويسر في المدينة ضد أنفسنا وضد الآخرين تتراكم علي قلوبنا وعقولنا ثم تتكثف ضباباً يغشي عيوننا وأقدامنا فنتخبط في الحياة كالوحوش العمياء، فالمدينة زحام، والزحام فوضى وتنافس وهمجية. ولكنهم في الصحراء قلة، والخطايا الصغيرة تصبح واضحة تطارد من يرتكبها، ويصبح ضبابها علي النفس أشد كثافة وثقلاً، بينما تحتاج دروب الحياة في الصحراء إلي بصيرة صافية نفاذة لتجنب أخطارها. إن الفضائل تمنحهم قدرة علي الصفاء، فيمتلكون حساً غريزياً مشبعاً بالطمأنينة، يضىء في عقل البدوى حين يضيع منه الطريق في رمال الصحراء الساخنة الناعمة فيهتدى في طريقه، وتجعل قلبه يدق له إنذاراً بالخطر وهو نائم في ليل الصحراء السحرى حينما يقترب من جسده عقرب أو ثعبان». وإن كان الروائى البرازيلى باولو كويلهو حظى بلقب ساحر الصحراء بعد روايته «الخميائى» وهي الرواية التي حظيت بشهرة عريضة في القرن العشرين، بعد صدورها في عام 1988، حيث توالت ترجماتها إلى مختلف لغات العالم فترجمت إلي سبع وستين لغة، وبيع منها حتي سنة 2012 ما يزيد على سبعين مليون نسخة، وهو ما جعل موسوعة جينيز للأرقام القياسية تذكرها كواحدة من أكثر الروايات ذات المستوي الرفيع التي حظيت بالترجمة والإقبال من القراء حال حياة مؤلفها علي مدي تاريخ الأدب كله، حيث صدرت ترجمة الخميائى لأول مرة عن دار الهلال عام 1996 بعنوان: «ساحر الصحراء» ثم أعيد طبعها بعد ذلك عدة مرات. و«الخميائى» هي رحلة بحث عن الذات من خلال الشاب «سنتياغو» الذي يمتهن الرعي ويقوده القدر إلي رحلة تبدأ من إسبانيا وطنه الأصلى إلي أهرامات مصر حيث حلمه وكنزه وهي رحلة طويلة في الصحراء وواحة الفيوم يتعلم الشاب من خلالها اللغة الكونية ويعرف كيف يتحدث إلي الرمال والرياح والشمس حتي يستطيع أن يصل إلي أسطورته الشخصية. من أجواء الخميائى «أتيت تسألني عن الأحلام، والأحلام هي لغة الله، وعندما يتكلم الله بلغة البشر فأنا أستطيع تفسيرها، لكنه عندما يتكلم بلغة روحك، فلن يفهمه أحد سواك». «عليك أن تذهب حتي أهرامات مصر، لم أسمع عنها مطلقاً لكن إن كان من أراك إياها طفل، فهذا يعني أنها موجودة فعلاً، هناك ستجد كنزاً سيجعل منك رجلاً غنياً». «كان عليه أن يتابع طريقه وأن يؤمن بالعلامات، فكل حياته ودراساته قد كرست في البحث عن اللغة الفريدة، التي يتحدث بها الكون، في البداية كان قد اهتم بالاسبرانتو, ثم الأديان، ولينتهي بالخمياء، لقد أجاد التكلم بلغة الاسبرانتو وانسجم تمامًا مع مختلف الأديان، لكنه لم يصبح خميائياً بعد، وقد نجح دون شك بتحليل أشياء مهمة، لكن أبحاثه وصلت إلي مرحلة لم يعد يستطيع تجاوزها. حاول إقامة علاقة مع أحد الخميائيين، لا علي التعيين، فالخميائيون شخصيات غريبة لا يفكرون إلا بأنفسهم، ويمتنعون في أكثر الأحيان عن تقديم مساعدتهم، من يعلم إن كانوا لم يكتشفوا بعد سر الإنجاز العظيم، وبعبارة أخرى «حجر الفلاسفة»، ولهذا السبب يتغلقون علي أنفسهم بصمت. لقد أنفق جزءاً من الثروة التي تركها له والده باحثاً دون جدوى عن حجر الفلاسفة. الجميل أن «فساد الأمكنة» تحظى مؤخراً بعدد كبير من القراءات علي كثير من صفحات التواصل الاجتماعى حيث دشنت عدة صفحات من أجل مؤازرة الكاتب الكبير شفاه الله وعافاه، فهناك دعوة لإعادة قراءة صبري موسي من جديد. فماذا قال عنه شباب القراء؟ يقول أحدهم «نيكولا رحالة إيطالي يحط رحاله في مصر. في الصحراء.. قادماً مع بعثة تعدين إيطالية، ينبهر نيكولا بالصحراء فيقرر أن يستقر أخيراً ويعيش فيها حياته حتي نهايتها.. نحن نتحدث عن رحلة كل شخص علي وجه الأرض.. رحلة الإنسان للبحث عن معني الوجود.. عن هدف الحياة.. عن السر الأعظم.. هذا السر الذي وجده الرحالة نيكولا أخيراً بعد ترحال في كل مكان.. وجده في الصحراء.. في الطبيعة العارية التي لم تتعرض للتشويه.. وأخيراً يجد نيكولا نفسه جزءاً من كل.. قطعة ضئيلة من كيان أسمى». ويقول آخر «علي الرغم من بعض ما أرفق بالرواية من آراء كتاب كبار عن أن الكاتب استغرق في عالم شخصياته الخارجي دون أن يتحدث عن عالمهم الداخلي فأنا أري العكس فلقد استوقفني الكثير من الشخصيات لأغوص مفكرة عما بداخلها ولماذا هي علي هذا النحو ولولا مسه بشكل أو بآخر، لذلك الجانب ما توقفت لدي دخيلتهم باحثة، فالكاتب لم يكن مطالباً بشرح أو تفسير لأن الصحراء وحدها كفيلة برسم كل التفاسير والخرائط لهذه الشخصيات». ويقول ثالث «لم أكن أعرف صبري موسي قبل قراءتي لهذه الرواية.. لكنني أبداً لن أنساه، إن ساحر الصحراء ليس باولو كويلهو، بل إنه صبري موسي أيضاً. جعلني أغوص بكل كياني داخل الكهوف، في أعالي الجيال، بين الوديان.. أتلمس صفرة الرمال، وأتخيل أشعة الشمس. أسلوب أدبى مُحكم وبديع.. الطبيعة والإنسان.. الصراعات والهروب. ويقول آخر «إن المحتوي كمأساة أوديب ملكاً! بائس وكئيب. لكن كل هذا البؤس عبقرى، إنها من تلك الروايات التي في بدايتها تقول لنفسك يا إلهي ما هذا الملل، وفي آخر صفحتين منها تقول: «يا إلهي ما هذه العبقرية، فهمت الآن!! إن هذه الرواية تستحق أن تكون من المفضلات عندي، وأن تظل في ذاكرتي رغم قسوتها وبؤسها فهي عميقة جداً، وإن كانت خالية من البهجة، وهي عبقرية جداً! إنها فقط تستحق الضجة ما يستحق كاتبها الضجة». ويتساءل أحد قرائه «لماذا لم يوضع صبري موسي في مكانه الطبيعي ككاتب عالمى، واكتشف الحياة الإنسانية بعيون متفردة، في رواية «فساد الأمكنة»؟.. هل للاسم علاقة باكتشافه الخاص للحياة؟!! فالحياة التي قدمها صبري موسي في روايته المطمورة بفعل فاعل، هذا الفاعل صبرى موسي نفسه، بابتعاده عن الأضواء، ولما كان تم الحديث عنه مسبوقاً بلقب «المرحوم»، في جريدة تابعة لوزارة الثقافة المصرية! لكنه ليس الأول ولن يكون الأخير وتلك طبيعة الحياة الثقافية في مصر ومهرة جامحة تطيح بمن لا يشكمها، ويسلس قيادها علي حساب فنه وأدبه، وصبري موسي اختار فنه، سيبقى اسمه حتي ولو لم يركب المهرة وتسلط عليه الأضواء». وآخر ما صدر للروائى الكبير هو رواية «السيد من حقل السبانخ» عام 1982 وهي رواية تصنف تحت بند روايات الخيال العلمى.. هدف بها موسي لتأسيس نوع جديد من الأدب العربى لكنه لم يجد من يتلقفه من الأجيال المتتالية إلا أدباء قلائل.