شهدت الفترة الأخيرة حدثين هامين طغيا على غيرهما من الأحداث الكثيرة والمثيرة التي تقع في منطقة الشرق الأوسط، إلى درجة اعتبرهما بعض المحللين السياسيين بمثابة مؤشرات قوية على تراجع في الدور الأميركي في المنطقة، وبوادر عودة روسيا للعب دور أكبر فيها. الحدث الأول هو تراخي القبضة الأميركية على السلاح الموجه نحو النظام في سوريا بشكل أحدث مفاجأة في الأوساط السياسية الدولية، أما الحدث الثاني فهو سقوط نظام الإخوان المسلمين في مصر الذي لم تخفِ الولاياتالمتحدة دعمها له. والحقيقة أن التسرع في إعطاء الأحكام على ما ترتب وما قد يترتب على هذين الحدثين من تغير في معادلات التوازنات السياسية الدولية في المنطقة، لا يخلو من مزالق ربما تقود إلى استنتاجات ليست في محلها، وإلى تبني مواقف يترتب عليها بعض الخسائر. وذلك بسبب التعقيد الشديد في المشهدين السوري والمصري من جهة، ولما للعلاقات الأميركية الروسية من مودة في ما يتعلق بتشابك المصالح ومن بغض في ما يتعلق بتعارض هذه المصالح من جهة ثانية، ولما لكل من سوريا ومصر من دور في الأحداث التي تخصهما من جهة ثالثة. إن ما طرأ في الآونة الأخيرة من أحداث في سوريا وفي مصر والتشابكات الإٌقليمية والدولية التي رافقتها، لا يساعد على الاستنتاج بأن الولاياتالمتحدة قد خسرت بعض مواقعها أو تنازلت عن بعض مواقفها لصالح روسيا، كما لا يرجح الاستنتاج بأن روسيا قد عززت ما تبقى لها من مواقع تستند إليها في المنطقة أو أنها عبدت الطريق نحو كسب مواقع جديدة فيها. فبالنسبة للملف السوري كان تراجع الإدارة الأميركية عن قرارها بتوجيه الضربات الصاروخية، مقترنا بالحصول على توافق أميركي - روسي - سوري على نزع سلاح سوريا الكيمياوي، وكان عراب هذا التوافق وفارسه سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي.. وترتب على هذا التوافق نزع سلاح الردع الوحيد الذي تمتلكه سوريا أمام الترسانة النووية التي تمتلكها إسرائيل. فما الذي كسبته موسكو وهي ترى حليفتها قد جُردت من أسلحتها وتراجع دورها السياسي الذي طالما تشدقت به وهو الممانعة والتصدي، بينما لم تتنازل الولاياتالمتحدة عن مطلبها الرئيسي وهو رحيل الرئيس الأسد؟ أما ما يتعلق بالموقف من الوضع الجديد في مصر بعد الإطاحة بالرئيس مرسي، فهو الآخر لا يمكن تفسيره على أنه تقارب للإدارة المصرية الجديدة مع روسيا وإدارة ظهرها للولايات المتحدة، فالإدارة المصرية المؤقتة لم يبدر عنها ما يساعد على استنتاج كهذا. صحيح أن الولاياتالمتحدة على المستوى الرسمي بدت متحفظة ومترددة، وربما محتارة في إبداء موقف صريح من عملية التغيير.. إلا أنها سارعت فيما بعد إلى إبداء مواقف تعبر عن التمسك بالخطوط العامة لسياساتها في منطقة الشرق الأوسط، التي تحرص فيها على إبقاء جميع خيوط التوازن الاستراتيجي في الصراع العربي الإسرائيلي في يديها وتحت سيطرتها، حيث تشكل العلاقات المصرية الأميركية حجر الزاوية فيها، رغم اتخاذها بضعة إجراءات للضغط على الإدارة الجديدة. كانت البوابة التي دخل منها الاتحاد السوفييتي السابق إلى منطقة الشرق الأوسط، هي البوابة المصرية في ظروف تحول استراتيجي كبير في الدولة المصرية منتصف خمسينيات القرن المنصرم، وخروجها تماما عن الخط الغربي واعتمادها توجها اقتصاديا تقاربت فيه مع ما كان يدعو إليه ويروج له الاتحاد السوفييتي السابق. ليس من الوارد في ظل الظروف الحالية، محليا وإقليميا ودوليا، أن يصير في مصر تحول يشبه أو يقترب مما حصل في الماضي . كما ذهب إلى ذلك بعض المحللين، فروسيا غير الاتحاد السوفييتي عقائديا وسياسيا وعسكريا من جهة، كما أن النخب المتوقع صعودها للسلطة في مصر ليس لها ما كان لدى النخب المصرية في المرحلة آنفة الذكر من طموحات وأحلام من جهة أخرى. إن إعادة تفعيل العلاقات المصرية الروسية إن تمت فلن تكون سوى في إطار محدود، لا يترتب عليه إضرار بالعلاقات المتشابكة والمعقدة التي ترتبط بها مصر مع الولاياتالمتحدة ومع الغرب عموما، في النواحي الاقتصادية والعسكرية. وذلك لأن إيجابيات علاقات كهذه مع روسيا في ظل غياب استراتيجية واضحة لضمان قرار مصري أكثر استقلالية، هي في الحقيقة أقل من سلبياتها. صحيح أنه حدث استياء كبير في الأوساط الشعبية المصرية من اللهجة التي استخدمها بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي عند زيارتهم مصر بعد إقصاء الرئيس مرسي، ولكن هؤلاء ليسوا جزءا من الإدارة الأميركية الحاكمة التي حرصت على صياغة موقف لا يترتب عليه ما يلحق الضرر بالعلاقات الأميركية المصرية. الولاياتالمتحدة على علم تام بأن قبضتها في الشرق الأوسط قد بدأ يصيبها الوهن، مع استمرار انتهاج الرئيس أوباما سياسة التراجع نحو الداخل، وهي سياسة بدأت تلقى معارضة متصاعدة، خاصة من لدن الجمهوريين الذين يرون أن هذه الإدارة تتحمل بعض المسؤولية عن استمرار التراجع في العراق على المستويين السياسي والأمني، وما لذلك من مخاطر تلحق بمصالح الولاياتالمتحدة في المنطقة. لذلك من الصعب توقع تخلي الولاياتالمتحدة عن حرصها الشديد على الإبقاء على العلاقات المتميزة التي تربطها بمصر، لأن ذلك لا ينفصل عن استراتيجية ضمان أمن إسرائيل، فقد كانت هذه العلاقة ضمانا لاستقرار الشرق الأوسط وفق التوازنات التي ترغب في الحفاظ عليها. إن التحليلات السياسية التي تفترض غيابا كليا لغير القرار الأميركي أو القرار الروسي، فيها الكثير من الشطط لأنها تتجاهل تماما سيادة الدول التي يتنافس القراران على توسيع مساحات هيمنتهما فيها. صحيح أن الولاياتالمتحدة قد خسرت بعض أوراقها في مصر.. ولكن هذه الخسارة ليست ربحا لروسيا وإنما ربح لمصر، إذ لا يمكن التغاضي عن حقيقة أن الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم الرئيس مبارك ثم الرئيس مرسي، كانت رفضا لواقع سيئ صنعته عدة عقود من سياسات بنيت في إطار علاقات مصرية أميركية غير متوازنة، أضرت بمصالح الشعب المصري وحجمت دور مصر عربيا وإقليميا. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية