بعد أن كانت العلاقات المصرية الروسية على وشك الانهيار بعد قرار رئيس الجمهورية السابق محمد مرسى بقطع العلاقات مع سوريا ونظام بشار أحد أهم حلفاء روسيا، خرجت الجماهير فى 30 يونيو لتنهى حكم الإخوان الاستبدادى وتقلب الأمور كلها رأسا على عقب، فحليف الأمس أصبح عدو اليوم وعدو الأمس تحول إلى حليف ويلوح برغبته تلك، وخلال الأيام الأخيرة تصاعدت وتيرة التلاسن الأمريكى الروسى على خلفية التهديدات الأمريكية لمصر والتى وصلت حد المناوشة بتحريك قطع بحرية من أوروبا، فردت روسيا بدعمها لمصر ضد أى تطاول أمريكى! الصراع الروسى- الأمريكى المستمر منذ خمسينيات القرن الماضى لم يتوقف لحظة واحدة طوال هذه الفترة ولو من أجل التقاط الأنفاس، الصراع مستمر والجولات تنتقل من مكان لآخر ومن دولة لأخرى، وكانت مصر بعيدة تماما عن هذهالحرب الباردة منذ عشرات السنين، فبعد رحيل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وانتهاء الحرب السوفيتية على أفغانستان، لم نخرج عن السياق التى حددته الإدارة الأمريكية طوال أكثر من 30 عاما مرت.
30 يونيو لم تطح بالإخوان فقط، ولم تحقق أهداف ثورة يناير الأولى فقط، بل تسببت فى تغيير خريطة العلاقات المصرية الخارجية بشكل حاد ونقلت إلى أرض مصر جولة جديدة من الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والدب الروسى.
الولاياتالمتحدة تتحالف دوما مع أنظمة وليس الشعوب كما تحاول أن تروج دائما، ومصر ذات أهمية استراتيجية غير عادية بالنسبة للأمريكان، سواء لوقوعها على الحدود مع إسرائيل الشقيقة الصغرى للولايات المتحدة وبسبب قناة السويس أهم ممر ملاحى فى العالم، وأخيرا لأن مصر هى القوة الأكبر فى الشرق الأوسط من عدة جوانب أهمها الجانب العسكرى، لذلك كان من المهم أن يتحول أى نظام حاكم فى مصر إلى خادمللإدارة الأمريكية حتى يستطيع تحقيق مصالحها ومصالح إسرائيل فى آن واحد، هكذا كان نظام مبارك وسار على دربه نظام محمد مرسى أو جماعة الإخوان، ولأن نظام الإخوان صنع على يد الأمريكان وساهموا فى وصولهم للحكم فى مصر بشكل كبير، كان من الطبيعى أن تشعر الإدارة الأمريكية بالخسارة عند سقوط نظام مرسى، وأن تحاول دعمه حتى آخر لحظة وتصف ما حدث بالانقلاب العسكرى رغم اعتراض الملايين من المصريين الرافضين لحكم الإخوان لعلها تنجح فى إعادة الحليف الذى لم يكمل دوره المطلوب منه إلى كرسيه مرة أخرى.
على الجانب الآخر ظل النظام الروسى يقترب من أنظمة الشرق الأوسط على استحياء طوال عشرات السنين مكتفيا بحليفه السورى ومتنازلا رغما عنه عن طموحه فى علاقات ذات طابع مختلف مع دول الخليج ومصر وليبيا، فالسوفييت لم يكن لهم أبدا لوبى داخل مصر مثل الولاياتالمتحدة والمؤيدون لفكرة التحالف مع الروس فى مصر مجموعة صغيرة من السياسيين متفرقون بين أحزاب وتوجهات مختلفة، ولذلك اكتفت روسيا ببشار كحليف مهم فى الوطن العربى، ولذلك عند قيام الثورة السورية على نظام بشار استمات الروس لمساعدة حليفهم بكل ما أوتوا من قوة ومعهم الإيرانيين والصينيين ليقفوا حائلا بينه وبين السقوط، فرحيل بشار يعنى وصول الإخوان إلى الحكم فى سوريا وهم حلفاء غير عاديين للأمريكان، مما يهدد إيرانوروسيا ثم الصين.
واستخدمت روسيا حق الفيتو لتمنع الأمريكان من تحقيق هدفهم فى السيطرة على سوريا أهم حليف عربى للروس عن طريق تمرير قرار دولى يفيد بدخول قوى دولية إلى سوريا وقتال بشار وجيشه، طوال هذه الصراعات كانت مصر وتحديدا فى فترة حكم المجلس العسكرى للبلاد على الحياد تماما مما يحدث فى سوريا، لا تدعم بشار ولا تقف ضده، لا تدعم الجيش الحر ولا تعاديه، لكن بعد عام تقريبا من حكم الرئيس السابق محمد مرسى خرج علينا بتصريحات غير مدروسة فى استاد القاهرة معلنا قطع العلاقات مع سوريا ونظام بشار ووجوب الجهاد فى سوريا فى صفوف الجيش الحر، هنا انتفض الدب الروسى للمرة الأولى ضد مصر وهدد وتوعد فى سابقة لم تحدث من قبل حتى فى عهد مبارك رغم علاقاته القوية بأمريكا.
وهذه القرارات الإخوانية كما ساهمت فى انهيار علاقات مصر بروسيا كانت سببا فى إرضاء أوباما ومن حوله بعد الأخطاء التى ارتكبها مرسى - من وجهة نظرهم - بإعادة ملف العلاقات المصرية - الإيرانية للحياة بعد تجميد عشرات السنين، وصبت هذه القرارات فى مصلحة الأمريكان فى جولتهم الباردة مع الروس بسبب أرض سوريا.
لذلك عندما خرجت الملايين لتعزل مرسى فى 30 يونيو من الحكم، اقتنصت الإدارة الروسية الفرصة للاستيلاء على الحليف الأمريكى الأكبر فى المنطقة، وسرعان ما تحول الموقف الروسى من الاستنكار لموقف مصر تجاه بشار إلى مؤيد لتلك الثورة ومعترفا بها وبشرعيتها، بل وصل الأمر للدفاع عنها ضد أسهم الأمريكان المشككة فى شرعية الثورة، فخرج بوتين بعد يومين من عزل مرسى ليعلن للعالم تضامنه مع الثورة المصرية.. وأكد أنه مستعد للتصدى لأى اعتداء خارجى على الجيش المصرى بسبب موقف الجيش من الثورة، واضعا الولاياتالمتحدة فى موقف حرج تحاول الخروج منه الآن، ولعل هذا الموقف كان سببا فى إشعال فتيل الحرب ضد أوباما التى يتبناها أعضاء الحزب الجمهورى بالكونجرس، ليعلن بتصريحاته الجريئة عن بدء جولة جديدة من الصراع البارد بين السوفييت والأمريكان على أرض مصر، وكانت ردود الأفعال الصادرة عن الجيش المصرى تجاه ما قاله بوتين متوازنة للغاية، ولم تعط لروسيا أو لأمريكا موقفا محددا تجاه الاثنين.
الصراع الروسى- الأمريكى فى مصر سيصل إلى ذروته فى حال استمرت أمريكا على موقفها المعادى لثورة 30 يونيو وإصرارها على عدم الاعتراف بالثورة الشعبية والاعتراف فقط بما يردده الإخوان أن الجيش انقلب على الحكم، ويترتب على ذلك أن تنفذ الولاياتالمتحدة تهديدها الذى لوحت به بعد الثورة مباشرة بقطع المعونة العسكرية عن مصر، وقتها سيظهر الروس فى الصورة بقوة وسيصبح السلاح الروسى هو البديل الأقوى للسلاح الأمريكى التى تقوم عليه العقيدة القتالية للجيش المصرى الآن ويمثل 90 بالمائة من تسليح الجيش، وفى هذه الحالة غير المستبعدة على الإطلاق - ستتحول دفة التحالفات ناحية روسيا وسيحتاج الجيش فى هذه الحالة من 3 إلى 5 سنوات لتغيير العقيدة القتالية والاعتماد بشكل كبير على السلاح الروسى.
أما إذا اختلف موقف الولاياتالمتحدة من الثورة الشعبية واعترفوا رسميا بها سيصبح الوضع كما كان عليه، لكن مع بعض التغييرات فى العلاقات قد يفرضها النظام القادم الذى توقعت الصحف الروسية أن يكون نظاما يساريا يسير على خطى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، مما سيجعل العلاقات المصرية الأمريكية تأخذ منحنى آخر يختلف عن الوضع أيام مبارك ومن بعده الإخوان، ولكن الأهم بالنسبة للأمريكان هو البقاء على مظاهر التحالف مع مصر حتى ولو اتسم هذا التحالف بالفتور ليجبروا الروس على الخروج من الصورة فى مصر على الأقل.
العديد من الخبراء توقعوا دخول عدد كبير من الاستثمارات الروسية إلى مصر خلال الفترة المقبلة وتحديدا بعد استقرار الأوضاع الداخلية لاستمالة المصريين نحو موسكو.. وسيكون أحد أهم مطالب الروس فى الفترة القادمة من الإدارة المصرية هو مساندة بشار فى حربه على الإخوان أو فى أسوأ الظروف البقاء على الحياد.
وعند هذه النقطة سيضغط الأمريكان بقوة من أجل موقف مصرى يساند الجيش الحر ويعترف به ويقطع العلاقات مع بشار، كما فعل مرسى، ولأن الإدارة الأمريكية تعرف جيدا أن التيارات الليبرالية واليسارية ومعهم القوات المسلحة لن يقبلوا الدخول فى هذا الصراعالمندلع على أرض سوريا، تحاول واشنطن الآن صناعة بديل مناسب لوراثة الحكم بعد رحيل الإخوان، وكل المؤشرات تؤكد أن هذا البديل يقع فى قلب الإسكندرية، حيث مقر الدعوة السلفية الرئيسى.
فالسلفيون سيقدمون للأمريكان ما يريدونه على طبق من ذهب، فهم مؤيدون لقطع العلاقات مع بشار ولا يقبلون التحالف مع روسيا تحت أى ظرف، لأن الأخيرة أحد أهم حلفاء إيران العدو السلفى الأول، بالإضافة إلى سعى السلفيين مؤخرا لفتح قنوات اتصال مع الأمريكان من خلال سعد الدين إبراهيم رئيس مركز ابن خلدون والذى شق قناة اتصال بين الإخوان وأمريكا بعد أحداث سبتمبر 2001ورغم إنكار السلفيين لذلك.. لكن زيارتهم لواشنطن لا يمكن إنكارها أو إخفاؤها، مما يعنى أن وصول السلفيين للحكم فى مصر يعنى انتصارا كاملا للإدارة الأمريكية على حساب الروسيين الذين يرحبون بنظام حكم ناصرى يرفض التوغل الأمريكى داخل سياسات البلاد الداخلية.
الأيام القادمة ستوضح بشكل كبير إلى أين ستتجه بوصلة الإدارة المصرية، هل فى اتجاه موسكو أو ناحية واشنطن؟ واسم رئيس مصر القادم وهويته ومرجعيته وكذلك الأغلبية البرلمانية ستحدد بشكل كبير إلى أين الاتجاه.