مبكراً في صدر شبابي تنبهت إلي أن الرقابة علي أي فكر أو إبداع لا معني لها!. وهو ما كان قد عرفه العالم قبلنا، فكل الأعمال الفنية والأدبية والفكرية التي منعتها الرقابة عندهم عادت بعد وقت وسمح بنشرها وعرض ما كان قد تم تجريمه بعنف. أما في وطننا العربي السعيد فينعم بحكم ديمقراطي من يومه وبالتالي لا يظهر عندنا أي فكر معارض لتحرمه الرقابة! حقا سمعنا أحيانا عن أعمال منعت لكننا لم نرها أصلا. فلما وقعت هزيمة يونيه التي عرفت باسم الدلع وهو «النكسة» أدركت كغيري أن خلف الهزيمة أسباباً لا تتعلق فقط بمؤامرات الاستعمار ضدنا، بل بأشياء تنقصنا بسبب تخلفنا نحن وبسبب الديكتاتورية التي نعيشها وتغطي علي كل عيوبنا.وبدأ الناس يتحدثون عن الهزيمة وأسبابها بعد أن خدرتنا المقالات والأغاني والخطب ومهدتنا لانتصارات في كل الميادين العسكرية والاقتصادية والصناعية والثقافية التي لم تتحقق بعد لكننا كنا علي وشك تحقيقها كلها، لولا الهزيمة! انقلب الوضع وبدأ البعض يغني أشعارا بالعامية تدين الأوضاع فتم القبض علي الشاعر أحمد فؤاد نجم ومعه ملحنها ومغنيها.. لكن الشاعر نزار قباني كانت عنده الحرية ليكتب قصيدة عما باسم «هوامش علي دفتر النكسة» دون أن يقبض عليه لأنه يعيش في سوريا.. وهاجم الرئيس عبدالناصر دون ذكر اسمه صراحة لكن الناس فهموا أنه يقصده وحده لا غيره، فحتى أخطاء الكل من حوله هو سببها لأنه الوحيد الذي كان يمنح ويمنع، وفورا صدرت الأوامر بمنع نشر القصيدة، وكان ذلك يحدث دائما فتصادر أغلب المطبوعات التي تطبع في الخارج، وكان راديو الزعيم يشوش علي المحطات العربية! فلا يسمع شعبنا ما يقال عنه أو عما يحدث في بلده! وفجأة وصلتني نسخة من القصيدة مكتوبة بالقلم الرصاص وقد نسيت الآن من أعطاها لي لأنه وصلتني في ظرف أيام عدة نسخ من القصيدة مكتوبة بالآلة الكاتبة ثم بالكربون وبالبالوظة. حتى تجمعت عندي عدة نسخ وزعتها علي من أعرفه ومنهم من لم يكن قد قرأ شعرا بالفصحى أبدا. دل منع القصيدة علي سذاجة الحاكم وغفلته و انتهازية المنافقين الذين يحوطون به، فهم أول من يعرفون أنه يصعب حجب الحقيقة.وبعكس ما أراد الزعيم أصبح نزار قباني هو شاعر الشعراء والبطل الشجاع المغوار. لكن ما أن توفي الزعيم بعد سنوات قليلة، حتى بادر نفس الشاعر ليسبق كل الأقلام التي راحت ترثيه فكتب فيه قصيدة بعنوان «قتلناك يا آخر الأنبياء»!.وفيها اتهم هذه المرة الشعوب العربية نفسها بأنها هي التي قتلت الزعيم! - عفوا أقصد آخر الأنبياء- ففي زحمة النواح كان مضطرا إلي أن يزايد على بقية المداحين فأعطي الزعيم صفة النبوة «خبط لزق» اعتمادا علي أنه لن يجرؤ أي أحد علي استنكار ذلك!.رغم أن الشهيد مات دون أن يحرر فلسطين السليبة بل تركها وقد قضموا منها قطعة أكبر، وزادوا عليها سيناء بأكملها والجولان كذلك والضفة الغربية فوق البيعة!! حتى الآن واقعنا لم يتغير فمحمد مرسي هو آخر الأنبياء في أعين جماعته، ومن أجله تقع التفجيرات والاغتيالات والحرائق وتهدم مصر كلها ويثور العالم الحر في الغرب علينا! لكنه ليس وحده، فما أكثر الذين ينتظرون أن يأخذوا مكانه وهم في سبيل ذلك يوجهون سهامهم الآن إلي الفريق السيسي بحجة أنه يمثل حكم العسكر! وكأنه وصل للسلطة بانقلاب كالزعيم، مع أنه لم يصل إلي أي سلطة. وكأنه يشبه ناصر مع أنهم يدعون أنهم اشتراكيون وثوريون وناصريون!. ورغم أنه لم يعلن أنه سيرشح نفسه لكن الثوريين يعلمون أن الناس هي التي تريده أن يحكم وقد خاطر بنفسه لينقذ هذا الشعب الذي كان معرضا لبحور من الدم ,وأوقف مؤامرات القوي الاستعمارية ضدنا، ومع ذلك حتى الآن لم يطلب الكرسي لنفسه وهو مما يزيد التفاف الناس حوله، ولهذا السبب ظهر مؤخرا هؤلاء الذين يدعون الثورية ويرفضونه علي أساس أنهم ضد حكم العسكر، وهم في الحقيقة إما من الإخوان المتسترين أو من أنصار آخر الأنبياء!.أو أنصار الأمريكان و«شلتهم» والدليل علي هذا أنهم لم يجرؤوا حتى الآن أن يرشحوا لنا رجلهم المنتظر!.فليظهروه.