نشرت مجلة الشئون الخارجية الأمريكية في عدد مايو - يونيو 2011 مقالاً متميزاً بعنوان: »ماذا تعني الثورات في العالم العربى« بقلم الكاتب آصف بيات.. ونظراً لعمق التحليل ودقته نسوق للقارئ كما نشر ثم نعلق عليه إن وجد كذلك داع. يقول آصف كيف يمكن أن نفهم الثورات التي اجتاحت العالم العربى؟ بعض المراقبين يرون أنها ثورات ما بعد الحداثة، تفجرت بلا قيادة وبلا أىديولوجية ثابتة، ويراها البعض أنها الموجة المقبلة من الثورات الديمقراطية الليبرالية. ويراها العامة كثورات شباب لأن الشباب لعبوا الدور الحاسم في إشعالها. ومع هذا يزعم البعض أنها ثورات إسلامية ستحول المنطقة لدول دينية تشبه إيران، وفي أمريكا هذا هو رأي المتشددين الجمهوريين، ويوافق الإيرانيون المتشددون على هذا الرأي مصرين علي أن الثورات العربية أوحت بها الثورة الإيرانية الإسلامية 1979. لقد اشتركت الجماعات الدينية في الاحتجاجات العربية إلي حد ما مثل حزب النهضة في تونس والإخوان المسلمون في مصر وسوريا، والمعارضة الإسلامية في اليمن مثلاً، ولكن الواقع فإن الثورات تتخطى السياسات الإسلامية التي سادت المنطقة منذ سنوات قليلة، ففى مقال لى 2008 عن مستقبل الثورات الإسلامية اقترحت أن التجربة الإيرانية ربما تكون أول وآخر ثورة إسلامية في وقتنا، لأن نمو الشعور الديمقراطى في الشرق الأوسط ربما يدفع التيار الإسلامى إلي »ما بعد الاتجاه الإسلامي« ممهداً الطريق لتحول ديمقراطى يلعب فيه التيار الإسلامي دوراً مهماً، ويمكن تسمية هذه النتيجة »إصلاحية ثورية بعد الإسلامية«، وبعد الإسلامية لا يعني أنها ضد الإسلام أو مدنية. فحركة ما بعد الإسلام تتمسك بالدين ولكنها تبرز حقوق المواطنة، فهي تنشد مجتمعاً فاضلاً في دولة ديمقراطية، والأمثلة الأولي لهذه الحركات تتضمن الحركة الإصلاحية في إيران أواخر التسعينيات، وحركة الثورة الخضراء في إيران حالياً، و»حزب العدالة المزدهر« في أندونيسيا، وحزب الوسط في مصر وحزب العدالة والتنمية في المغرب، وحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا حالياً، كانت كل هذه الأحزاب محافظة في بداية نشأتها، ولكن بمرور الوقت بدأت تنتقد التجاوزات الإسلامية ومخالفتها للحقوق الديمقراطية واستخدامها للدين كأداة للوصول للسلطة، كل هذه الأحزاب اختارت في الواقع العملى من خلال الدولة الديمقراطية. ويبدو أن الحركات الاحتجاجية التي تميز الثورات الحالية مصرة علي الاقتداء بالتجارب بعد الإسلامية، فحتي الآن فالشعارات الدينية لا تظهر رغم أن المشتركين في الكثير من انتفاضات الشرق الأوسط يتميزون بالتدين الشديد، ففى تونس كان الهدف الأساسى للثوار هو إقامة حكومة ديمقراطية، وقد رفض راشد الغنوش مؤسس الحزب الإسلامي »حزب النهضة« علناً اقتداء تونس بالدولة الخومينية، ورفض التقدم لانتخابات الرئاسة مستقيلاً، وبالمثل في مصر طالبت الثورة »بالتغيير والحرية والعدالة الاجتماعية« وكانت مدنية بصفة عامة. والواقع أن الجماعات الدينية الرئىسية مثل جماعة أنصار السنة المحمدية، وهي جماعة سلفية تسيطر علي خمسمائة مسجد، والعديد من المدارس والاتحادات، والأزهر وهو المؤسسة الدينية الإسلامية الرئىسية، والكنيسة القبطية، كل هذه الجهات لم تؤيد الثورة عند قيامها، واشترك قدامي الإخوان المسلمين في الثورة علي مضض بعد أن دفعهم شباب الجماعة للاشتراك. أما الحركة الثورية الليبية ومجلس الحكم المؤقت فليست مكونة من تيار إسلامى أو تنظيم القاعدة بل من علمانيين ومتدينين وبينهم أطباء ومدرسون وخارجون علي القذافى ونشطاء ضده، وللتيار الإسلامي نسبة بسيطة من الأعضاء حيث تم سحق الكثيرين من هذا التيار علي يد القذافى، أما في اليمن وسوريا حيث يطالب المتظاهرون بالديمقراطية فليس هناك دليل علي تواجد تيار إسلامي قوى بينهم. أما البحرين فقد أخذت الاحتجاجات طابعاً طائفياً، حيث إن النظام الملكي الحاكم سني والشعب شيعى، ولكن تيار المعارضة الرئيسى مطالبه علمانية وهى حكومة منتخبة وصحافة حرة وحق الشعب في تكوين الجمعيات ووضع نهاية للتمييز الدينى. والأغلبية الكبري من الثورات الحالية توجهاتها علمانية ومدنية، ما يمثل تحولاً عن السياسة العربية في منتصف الثمانينات والتسعينيات حيث كانت الطبقة السياسية متأثرة بالثورة الإسلامية الإيرانية 1979 وتسعى لإنشاء نظام إسلامي وحكم بالشريعة، وكان هدفها الأساسى هو إنشاء مجتمع أىديولوجى ديني يعالج المطالب المدنية، فبالنسية للإسلاميين كانوا يرون الدولة هي الأداة الأقوي لنشر الفضيلة والقضاء علي الشر، ويعتبرون المواطنين رعايا عليهم التزام بالطاعة للدولة الفاضلة دون اعتبار كبير لحقوقهم المدنية. واختلفت وسيلة الوصول لتحقيق هذا النظام باختلاف الجماعات، فالجماعات المتطرفة مثل »الجماعة الإسلامية« بمصر حملت السلاح فى التسعينيات لهدم الدولة المدنية، أما المعتدلون مثل الإخوان المسلمين في العديد من الدول العربية فكانوا يفضلون الدعوة والعمل من خلال النظام القائم لتغييره تدريجياً، وكان الفريقان متفقين في العداء نحو الغرب. ومع ذلك لم يستطيعا حل خلافهما في السياسة الخارجية، فالجماعات الشيعية المتطرفة مثل حزب الدعوة العراقي وحزب الله اللبناني تحالفت مع إيران، بينما ظلت الجماعات السنية قريبة من السعودية، وقد زرعت الأنظمة الديكتاتورية العربية دون وعي منها بذور فنائها خلال الثمانينيات والتسعينيات، فبينما زاد عدد السكان واتسع حكم سكان المدن زاد طلب المواطنين لحقوقهم خاصة حق العمل الآمن والسكن المناسب واحترام حقوق المواطنة، وطبعاً لم تستطع اقتصادات الدول العربية تلبية هذه الرغبات، فاندلعت التظاهرات الضخمة خلال الثمانينيات، وبدل أن تتجه الأنظمة الحاكمة نحو توفير الرعاية الاجتماعية اتجهت نحو اقتصادات الليبرالية الحديثة التي سادت في التسعينيات وتركت الرعاية الاجتماعية للخدمات التي قدمتها الجماعات الدينية، ولم تكف هذه الخدمات للحد من الفقر والفوارق الطبقية التى سممت مجتمعات الشرق الأوسط، فالواقع أن مزيجاً من السياسات الاقتصادية وضعف شبكة الضمان الاجتماعي وسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وسحق الطبقة المتوسطة وهمش الجزء الأكبر من مثقفى الطبقة المتوسطة. وزاد حجم فقراء الطبقة المتوسطة خلال العقدين الأخيرين، فخريجو الجامعات كانوا علي علاقة بالعالم الخارجي من خلال الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة، ورأوا مستوي معيشة الطبقة المتوسطة في الغرب مقارنة بالفقر الذى يتردون فيه دون أمل فى تحسن مستواهم، وحاولت الفئات المهمشة الأخرى في العالم العربي مثل النساء والشباب الصراع لتحسين أوضاعها وإثبات وجودها من خلال الجمعيات المدنية والعمل التطوعى، ولكن لم ينجح الكثير من هذه الأنشطة في تغيير ظروف حياتها، وأصبح الشباب خطراً حقيقياً علي الأنظمة الحاكمة عبر منتصف 2010 عندما مكنتهم وسائل الإعلام المتاحة من حشد قواهم ضد الأنظمة الحاكمة. إذن فخلال التسعينيات كان التحدى الأساسى للأنظمة الحاكمة هو التيار الإسلامي الذي أيده معظم فقراء الطبقة المتوسطة. ولكن بدأ الإسلاميون مؤخراً يفقدون جاذبيتهم وفقد النموذج الإيراني للحكم جاذبية، فسمعة النظام الإيرانى في القمع وفشله في القضاء علي الفقر أفقدته سطوته تماماً، وعملت الأنشطة الإرهابية لتنظيم القاعدة علي نفور أغلبية المسلمين منه ورفضهم أن يستغل الإسلام في حرمان المجتمعات الإسلامية من الحرية وحقوق الإنسان ومحاربة الديمقراطية. وكانت بدايات رؤية ما بعد التيار الإسلامي واضحة في مصر 2000 عندما نشأت ما يسمي اللجنة الشعبية للتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية، حيث حشدت الشباب من جميع التيارات والعقائد نحو مجتمع مدنى، ثم ظهرت حركة »كفاية« 2004 لتستمر علي طريق الديمقراطية نحو مجتمع مدني يشمل المتدينين والعلمانيين واليساريين والقوميين، وغير هذا الأسلوب السياسي الجديد من الصورة وأثر في شباب التيارات الدينية خاصة الإخوان المسلمين ودفعهم نحو الديمقراطية المدنية وآمن الكثيرون بإمكانية بقائهم مسلمين متدينين في دولة مدنية ديمقراطية مثل تركيا.. وكانت الفرصة الكبري للتيارين الإسلامى والمدني لحشد قواهما نحو المطالبة بدولة ديمقراطية.. وبحلول أواخر 2010 كانت الساحة ممهدة لرؤية سياسية جديدة ووسيلة عملية لتحقيقها وهى: تفجير الثورة. وستظهر الأيام ما إذا كانت هذه الرؤية الثورية ستستمر بعد أن يهدأ لهيب الثورة، هناك طبعاً احتمال رجعة للوراء نحو أصولية دينية جديدة، فالسلفيون في مصر مثلاً عارضوا الثورة ويحشدون قواهم في مساجدهم وفي الشوارع منادين بأن الديمقراطية كفر وخروج علي الدين، ولكن مهما كان التعصب الذي قد يشعله السلفيون فالشىء المؤكد أن الديمقراطيين سواء كانوا متدينين أو علمانيين أمامهم مهمة شاقة، فعليهم العمل علي ترسيخ قيم الديمقراطية بين الجماهير، فإذا كان السلفيون يستطيعون تحريك الجماهير، فالديمقراطيون يستطيعون أيضاً تحريكهم علي وجه أكفأ وأكثر تمشياً مع التطور البشرى، وإلي هنا ينتهى هذا التقرير الممتاز الذى نشرته مجلة الشئون الخارجية عن القوى المحركة في الشارع العربي والمعركة القادمة وبين التخلف والتقدم وبين الردة إلى مجتمع العصور الوسطى وبين الدخول في القرن الحادي والعشرين بدولة مدنية ديمقراطية ترعي حق المواطنة ويكون الدين فيها لله والوطن للجميع. أحمد عزالعرب نائب رئيس حزب الوفد