نشرت مجلة الشئون الخارجية Foreign Affairs الأمريكية في عدد شهري مايو ويونية دراسة مهمة للكاتب آصف بيات، أستاذ علم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط في جامعة إلينوي والذي صدر له حديثاً كتاب بعنوان "الحياة كسياسة: كيف يغير أناس عاديون الشرق الأوسط؟". والدكتور آصف بيات له العديد من المؤلفات منها "العمال والثورة في إيران" الصادر عام 1987، "سياسة الشارع: حركات الفقراء في إيران" الصادر عام 1997، "تحويل الإسلام إلي الديمقراطية: الحركات الاجتماعية والمنحني الما بعد إسلامي" الصادر عام 2007، كما شارك في تحرير كتاب بعنوان "أن تكون شاباً ومسلماً: السياسيات الثقافية الجديدة في الشمال والجنوب". يذكر أن آصف بيات ولد في قرية صغيرة غرب العاصمة الإيرانيةطهران في منصف الخمسينات. تلقي آصف بيات تعليماً دينياً ودرس علي يد تلاميذ علي شريعاتي قبل أن يقرر أن ينتهج المنهج العلماني والفكر اليساري. حصل آصف بيات علي بكالوريوس العلوم الاجتماعية والسياسية من جامعة طهران وعلي درجة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة كنت البريطانية. وشغل آصف بيات عدة مناصب أكاديمية منها أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وجامعتي بيركلي-كاليفورنيا وكولومبيا بالولاياتالمتحدة، وجامعة لايدن بهولندا. تصنيف الثورات العربية ويبدأ آصف بيات دراسته بالتساؤل عن الكيفية التي يمكن أن نتفهم بها الثورات التي تجتاح العالم العربي. ويصنف بعض المراقبين تلك الثورات علي أنها ثورات ما بعد حداثية؛ متشعبة وتفتقر إلي القيادة وإلي الأيديولوجيا الموجهة لها، في حين يري بعض آخر أن تلك الثورات تعد موجة جديدة من الثورات الديمقراطية الليبرالية. ومع اختلاف الفريقين، فإن هناك اتفاقا علي أنها ثورات شبابية حيث لعب الشباب خلالها دوراً رائداً. وعلي الرغم من ذلك، فإن هناك من يري أن هذه الثورات ربما تكون ثورات إسلامية تحول المنطقة بأكملها إلي ثيوقراطية شبيهة بالنظام في إيران. ومن بين هؤلاء الذين يميلون إلي هذا الموقف العديد من قيادات الحزب الجمهوري في الولاياتالمتحدة، وأصحاب الفكر المتشدد في إيران الذين وصفوا الثورات العربية بأنها استلهمت الثورة الإيرانية عام 1979 . وعلي أرض الواقع، نجد أن الحركات الإسلامية شاركت إلي حد ما في الثورات العربية التي اندلعت حتي الآن كما هو الحال في نموذج حزب النهضة في تونس، والإخوان المسلمين في مصر وسوريا، والمعارضة الإسلامية في اليمن. ومن تتبع الأحداث عن كثب، ينفرد آصف بيات بتحليل يختلف عن الآراء السابقة حيث يصف الثورات العربية بأنها تخطت السياسات الإسلامية التي هيمنت علي المنطقة في الفترات السابقة، ويؤكد كما أشار في دراسة سابقة عام 2008 أن نموذج الثورة الإسلامية في إيران كان وسيظل النموذج الأول والأخير للثورة الإسلامية لأن منطقة الشرق الأوسط، كما يعتقد، أصبحت منطقة تشهد نمو الحركات والحساسيات الديمقراطية مما يمهد الطريق لتحويل الثورات العربية إلي ثورات ما بعد إسلامية Post-Islamist ترتكز علي مفهومي الثورة والإصلاح Refo-lutions في آن واحد بهدف تحقيق ديمقراطيات يكون فيها دور الإسلام دورا محوريا. تعريف الحركات ما بعد إسلامية ويعرف آصف بيات مفهوم الحركة ما بعد إسلامية بأنها ليست حركة علمانية أو مضادة للإسلام؛ وإنما هي حركة تبرز دورا الإسلام كدين ولكنها تعلي في الوقت نفسه مفهوم المواطنة وحقوقها. فهي في النهاية تطمح إلي تحقيق معادلة يكون فيها المجتمع متدينا وديمقراطيا. ومن الأمثلة لذلك حركة الإصلاح في إيران في نهاية التسعينات، وحركة الخضر في إيران أيضاً الآن، وحزب الوسط في مصر، وحزب العدالة في إندونيسيا، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، وحزب العدالة والتنمية في تركيا. والمشترك بين هذه الأحزاب كلها أنها بدأت بداية أصولية ثم تحولت إلي نقد الإسلام المتطرف الذي ينتهك حقوق الإنسان ويستخدم الدين لإضفاء قدسية علي القوة السياسية. ويلاحظ آصف بيات أن الحركات الدينية خلال الثورات العربية تسير علي خطي تلك التجارب الما بعد إسلامية حيث يختفي الخطاب الديني وتتعالي مطالب الديمقراطية والإصلاح. ورأينا مثلاً نموذج راشد الغنوشي مؤسس حزب النهضة الإسلامية في تونس يعلن علي الملأ رفض حزبه لفكرة الدولة الخومينية وكذلك عن نيته عدم الترشح لانتخابات الرئاسة. وذلك هو نفس المنهج الذي احتذاه الإخوان المسلمون في مصر. كما يلاحظ بيات أيضاً أن شعارات الثورة المصرية التي طالبت بالتغيير والحرية والعدالة الاجتماعية كانت مطالب علمانية ولم تحظ مع بداية الثورة بتأييد الجماعات الدينية مثل جمعية أنصار السنة المحمدية والجماعة السلفية والأزهر والكنيسة القبطية. ثورات مدنية علمانية وفي حالة الثورة الليبية، يلاحظ أيضاً أن مشاركة الحركات الإسلامية هي مشاركة ضئيلة، وهو نفس الحال في ثورة الشعب السوري والشعب اليمني. وعلي الرغم من أن الثورة في البحرين أخذت منحي طائفياً، إلا أن الشعارات المطروحة هي شعارات علمانية في المقام الأول من توفير حكومة منتخبة، وصحافة حرة والقضاء علي التمييز الطائفي. وهكذا يشير آصف بيات إلي أن ثورات العالم العربي اليوم هي ثورات مدنية علمانية تختلف عن السياسة العربية السائدة في الثمانينات والتسعينات وعن النموذج الإيراني الذي قدم فكرة الدولة الدينية علي أنها المؤسسة الأكثر قوة وقدرة علي نشر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون فيها المواطنون ملزمين دينياً تجاه الدولة التي لا تعطي الحقوق الفردية الأولوية الأولي. ويظل هدف تحقيق الدولة الدينية يختلف من جماعة دينية لأخري حيث تري الجماعات الجهادية مثل الجماعة الإسلامية في مصر أن الهدف لن يتحقق إلا بحمل السلاح لتقويض الدولة العلمانية بينما تري الحركات المعتدلة مثل جماعة الإخوان المسلمين في مختلف الدولة العربية أن الدولة الدينية تتحقق عن طريق الدعوة والمشاركة من خلال مؤسسات الدولة لتحقيق التغيير الإسلامي تدريجياً. وتتفق هذه الجماعات كلها في اعتبار الغرب عدواً مشتركاً لها رغم اختلافاتهم فيما بينهم فيما يخص السياسة الخارجية وفي إقامة التحالفات الإقليمية. فالحركات الجهادية الشيعية مثل حزب الدعوة العراقي وحزب الله اللبناني تتحالف مع إيران بينما نجد أن الحركات السنية الجهادية أقرب إلي التحالف مع المملكة العربية السعودية. جذور الثورات العربية وفي تحليله لجذور الثورات العربية الراهنة، يري آصف بيات أن الأنظمة الشمولية العربية قد مهدت بنفسها لأسباب انهيارها منذ الثمانينات عندما عجزت عن مواكبة الحاجات الاقتصادية لشعوبها وألقت بمهمة الإصلاحات للجماعات المدنية الدينية التي فشلت بدورها في تغطية الاحتياجات الهائلة للقوة السكانية المتزايدة غير أنها أثبتت وجودها وعززته. توجه الأنظمة العربية لتبني سياسات الاقتصاد الليبرالي الجديد لم يؤد إلا إلي ازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء وإلي إفقار الطبقة المتوسطة. ويعتبر العامل الأخير هو العامل المحرك للثورات حيث إن الطبقة المتوسطة التي أفقرت تتمتع بتعليم وثقافة إلكترونية وطموحات، وهي التي أفرزت في أواخر العقد الأول من القرن الحالي جموع الشباب التي تبنت العمل الثوري عن طريق شبكات التواصل عبر الانترنت. ويؤكد آصف بيات أن الحركات الإسلامية بدأت تفقد جاذبيتها تدريجياً بعد أن اتضحت حقيقة النموذج الإيراني كنظام قمعي ونخبوي، وبعد أن أدي العنف الذي يتبناه تنظيم القاعدة إلي الإساءة إلي صورة الإسلام والمسلمين مما جعل المسلمين العاديين ينتقدون ممارسات الحركات الإسلامية التي تعتنق العنف كمنهج لتحقيق أهدافها، وتنتهك حقوق الإنسان، وترفض التعددية مستغلة بذلك الإسلام كأداة للحصول علي القوة. وكان رد فعل هؤلاء هو التخلي عن فكرة الدولة الدينية والتوجه إلي المطالبة بالديمقراطية. وتمثل الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) أحد أهم مقدمات الحركة ما بعد إسلامية حيث إنها منذ ظهورها عام 2004 ركزت علي المطالبة بالديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، وقامت بسد الفجوة بين الأيديولوجيات المختلفة حيث جمعت في صفوفها التيارات الدينية والعلمانية واليسارية والقومية متخطية بذلك الخطأ التقليدي للحركات الإسلامية وهو النخبوية الأيديولوجية. تحديات مستقبلية ويذهب آصف بيات في نهاية دراسته إلي أن الفكر ما بعد إسلامي هو إطار جديد يمكن من خلاله أن يكون المسلم متمسكاً بدينه وبالديمقراطية في آن واحد كما هو الحال في النموذج التركي. وكان الإعلام الإلكتروني له الفضل في توفير مناخ تواصل فيه لأول مرة شباب من تيارات دينية وعلمانية حيث مكنهم هذا التواصل من تحديد أجندة مطالبهم السياسية ومن تعبئة الناشطين الذين بدأوا العمل لتحقيق أهدافهم. ويشير آصف بيات إلي أنه من المبكر الحكم علي مستقبل هذا المناخ ما بعد الإسلامي حيث إنه لا تزال هناك إمكانية أن تحدث صحوة أصولية، ويستشهد بما رأيناه في مصر من قيام الجماعات السلفية بإعادة تنظيم صفوفها. وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه من يطالب بالديمقراطية والذي لن تتمكن الثورات العربية من تخطيه إلا بإرساء القيم الديمقراطية علي المستوي الشعبي لتعبئة الأناس العاديين الذين يمكنهم بالفعل تغيير مستقبل الشرق الأوسط بالكامل.