لأن الفن مرآة الشعوب.. ومن منطلق أن التاريخ يعيد نفسه.. فإذا أراد أحد مشاهدة نسخة بالكربون من وجوه البلتاجى وطارق الزمر وصفوت حجازى و ماجد عاصم, فعليك بإعادة مشاهدة مسلسل «الحسن والحسين» لأنك ستجد نسختهم التاريخية بأفكارهم الدموية التكفيرية من خلال الممثلين الذين أدوا أدوار عبد الله بن يحيى بن عمر بن الأسود، وأبو بلال مرداس الحنظلى.. تلك الأسماء التى تعد نقطاً سوداء فى ثوب الإسلام الناصع البياض. ما أشبه الليلة بالبارحة, فالأحداث التى نعيشها الآن تشبه كثيرا ما حدث إبان الفتنة الكبرى والتى ألبس فيه الدين رداء الباطل واستخدمت شعارات التدين والمدافعة عن شرع الله لنشر أفكار الخوارج. وقت رفع فيه قتلة الحسين المصاحف على أسنة الرماح.. لقد وضع الخليفة على بن أبى طالب منهجا قويما فى التعامل مع هذه الطائفة، تمثل هذا المنهج فى قوله للخوارج: «.. إلا إن لكم عندى ثلاث خلال ما كنتم معنا: لن نمنعكم مساجد الله، ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا». وهذه المعاملة فى حال التزموا جماعة المسلمين ولم تمتد أيديهم إليها بالبغى والعدوان، أما إذا امتدت أيديهم إلى حرمات المسلمين فيجب دفعهم وكف أذاهم عن المسلمين، وهذا ما فعله أمير المؤمنين على رضى الله عنه حين قتل الخوارج عبدالله بن خباب بن الأرت، فطالبهم رضى الله عنه بقتلته فأبوا، وقالوا كلنا قتله وكلنا مستحل دماءكم ودماءهم، فسل عليهم رضى الله عنه سيف الحق حتى أبادهم فى وقعة النهروان.. تلك الحادثة التاريخية تفسر ما فعل بخوارج 2013 من قبل الحكومة المصرية. ومن هذا المنطلق يكون طرح أعمال فنية تقترب من تلك الفترة بكل موضوعية وتمثل دورا تنويريا يساعد عوام الناس على فهم ما يحدث الآن حتى لايقعوا فريسة سيطرة مدعى التدين وراغبى السيطرة, وخير وسيلة هو مشاهدة عمل بقيمة مسلسل الحسن والحسين. وللأسف نال قدرا لايستهان به من الهجوم عليه والمطالبة بعدم عرضه بحجة حرمة ظهور الصحابة وآل البيت, رغم أن فى ظهورهم وسيلة لدرء المظالم عن الناس ووسيلة لتوصيل الحق لعامة الشعب وهو هدف سام, وأعتقد أن الشخص الوحيد الممنوع ظهوره أو التشبه به هو الرسول عليه الصلاة والسلام, لذلك فأنا أرى أن كثيراً من الكتابات التى تصدت لعمل (الحسن والحسين) خرجت من عباءة المواقف الدينية المتباينة، واعتمدت على روايات تاريخية مختلفة، عنهما وعن الفترة التى عاشا فيها، بما فيها من أحداث وشخصيات. وللأسف لم يحكم العقل فى بعض الآراء خاصة أن من تابع المسلسل يجد أنه صحح الكثير من الأخطاء التى نقلت إلينا إما من قراءة كتب تاريخ مغرضة أو من فرقتى السلفيين والشيعة المتشددين، وهى محاكمة غير منطقية، وبالضرورة غير واعية. وفى الحقيقة إن أشد ما أعجبنى فى هذا العمل هو أنك أمام سيناريو لم يستغرق فى التفاصيل إلى حد أن يصبح المسلسل عملا وثائقيا, ولم يسقط فى الاستهانة بالأحداث إلى حد الاقتراب من كونه عملاً درامياً يمكن أن يحمله صاحبه ما يريد قوله من رؤيته الشخصية للأحداث, فالأعمال ذات الصبغة الدينية لا تتحمل هذا الشطح الدرامى, والذى يمكن تقبله فى بعض الأطروحات الفنية لأحداث تاريخية. وأهمية هذا العمل أنه طرح بداية اشتعال الفتنة بعد تولى عثمان بن عفان رضى الله عنه, وشرحها بشكل يجعلك تشعر بالمطابقة بين ما يحدث أيامها وما يحدث الآن. وأكد من خلال استعراض فترة ولاية سيدنا على رضى الله عنه فكرة اختيار الوقت المناسب لاتخاذ القرارات, ففى بداية خلافته التى لم تستقرّ له، لا شك أن على كان حريصًا على تنفيذ القصاص ممن قتل عثمان، ولكنه رأى أن أهل الفتنة الذين قتلوا عثمان هم المسيطرون على زمام الأمور فى المدينة الآن، ولو حاول تنفيذ القصاص لانقلب كل هؤلاء على أهل المدينة قتلاً وتمثيلاً، فأجل تنفيذ القصاص حتى تستقر الأمور. وكان كثير من الصحابة معه ولكن كانت هناك مجموعتان يرون رأيًا مخالفًا؛ فكانوا يرون وجوب القصاص الفورى من قتلة عثمان، الفريق الأول يضم السيدة عائشة رضى الله عنها، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والفريق الثانى يضم معاوية بن أبى سفيان والى الشام، والذى يعتبر نفسه ولى دمه؛ لأنه من بنى أمية مثله. لذلك رفض المبايعة إلا بعد حدوث القصاص، وهذا ما أظهره السيناريو بكل وضوح. وبالتالى أنقذنا من روايات أهل الفتنة مشوهى تاريخ الصحابة, وهذا ما نجح فيه أيضا السيناريست عند تناوله موقعة الجمل فمعاوية لم يشارك مع أصحاب الجمل فى الحرب، رغم أنه على نفس رأيهم، وهذا ما أكده أيضا الإمام ابن تيمية: «ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداءً، بل كان من أشد الناس حرصًا على ألا يكون هناك قتال». وهذا مافعله المسلسل عند تناوله موقعة صفين والتى استشهد فيها الصحابى الجليل عمار بن ياسر الذى كان يحارب فى صفوف أمير المؤمنين على وجعله السيناريست يقتل على يد أحد الخوارج وهو محاكاة درامية موفقة وتبرئ معاوية من دمه. وتقترب من الحقيقة, فقد قال عمار نفسه: «حدثنى حبيبى رسول الله أنى لا أموت إلا قتلاً بين فئتين مؤمنتين». وفى الحقيقة أن من أجمل الحلقات التى قدمها المسلسل عندما اقترب من أحداث حقن الحسين لدماء المسلمين والتنازل لمعاوية عن الولاية ومبايعته. فقد قال الحسن: سمعت أبا بكر يقول: رأيت رسول الله على المنبر والحسن بن على إلى جنبه، وهو يُقبِل على الناس مرةً وعليه أخرى ويقول: (إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ). وكان رائعا من السيناريست عدم إظهار أى من الصحابة والتابعين رغم تباين مواقفهم وتصرفاتهم كباغين, على عكس ما رسخ فى العقول من رجال الدين من الطرفين والذى وصل ببعضهم إلى حد تشويه معاوية واتهامه بالكفر. رغم قول النبى صلى الله عليه وسلم لمعاوية: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهده واهد به», الى جانب أن المسلسل أصلح ما يتناقله البعض بشأن قصة دس السم من قبل معاوية للحسن رغم بعدها عن المنطق وخاصة أن الحسن رضى الله عنه تصالح مع معاوية وسلم له بالخلافة طواعية وبايعه عليها، فلماذا يقدم معاوية على سم الحسن ؟! وإذا كان معاوية يريد أن يصفى الساحة من المعارضين حتى يتمكن من مبايعة يزيد بدون معارضة ، فإنه سيضطر إلى تصفية الكثير من أبناء الصحابة، ولم تقتصر التصفية على الحسن فقط. لذلك طرح السيناريست فكرة أن أحد أعداء الحسن بن على رضى الله عنه، ظل يتابعه لسنوات وتحين الفرصة وسقاه السم, وهى رؤية درامية أقرب للمنطق. وأخيرا.. أتمنى إعادة إذاعة هذا العمل مرات عديدة خاصة أنه لا يقدم فقط طرحا أقرب للعقل والمنطق لأحداث إسلامية خاض فيها الكثيرون بالحق والباطل، ولكن لكونه أيضا قرب الفرق بين رقة الحسين وميله الى اللين فى التعامل, وشدته وصلابته فى الدفاع عن الحق وكلاهما مطلوب لأنهما وجه الحقيقة المجردة.