حين بدأ الحديث عن الثورات فى البلدان العربية، عاد البعض إلى قصة عثمان وعلى وبنيه، حيث الثورة الأولى فى الإسلام، وحاولوا ترويع من ضاقوا بالظلم من عواقب الوقوف فى وجه الحاكم، متناسين بذلك أن لهذه الثورة ظروفا وملابسات أخرى لا يمكن القياس عليها، فهذه الثورة قامت بين أيدى اثنين من خلفاء المسلمين لا ينكر عليهما أحد فضلهما وسبقهما فى الإسلام وهما: عثمان بن عفان وهو زوج ابنتيه (رقية وأم كلثوم) وصاحبه وخليفته من بعد أبوبكر وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب ابن عم الرسول وربيبه وأول من أسلم من الرجال. حين أطلق طه حسين على كتابه عن هذه الحقبة الزمنية اسم «الفتنة الكبرى» لم يكن مخطئا، فمازالت تبعاتها تثور إلى اليوم، لا على طاولات السياسة وحدها بل حول الدراما والكتب أيضا، فمازالت محاولات تأويل هذا التاريخ البعيد ولى عنقه مستمرة إلى اليوم، بحيث يخدم أغراض بعض الأنظمة السياسية فى مواجهة أخرى، وأبرزها هذه الأيام مسلسل «الحسن والحسين». يبدأ حسين كتابه بالإشارة إلى صعوبة التعامل بعين موضوعية مع إرث تاريخى مازالت أطرافه تتبادل النزاع منذ قرون، تشوه وتلفق القصص والروايات إلى بعضها البعض، ولا دليل قاطعا على صحة هذه الروايات التى تدخلت كثير من العوامل فى ترويجها مثل أهواء الحكام حيث تنافس الكتبة والمؤرخون فى تلفيق الأحاديث بين أيديهم طمعا فى العطاء الواسع. فكتب طه حسين عميد الأدب العربى فى واحد من أروع ما كتب عن تاريخ هذه الحقبة فى كتابه «الفتنة الكبرى»: «ذهب هؤلاء جميعا (يقصد أنصار معاوية وشيعة على) فيما أرادوا من التعظيم والتفخيم والتهويل والتأويل. وخلطوا كل ذلك بالتاريخ خلطا عجيبا، حتى أصبح أعسر العسر أن يخلص المؤرخ إلى الحق الواضح فى أيسر الأمور من كل ما يتصل بشأن من شئون على. فهم لم يكتبوا حديث على متجردين فيه من شهوات القلوب ونزوات النفوس» ويوضح حسين أن المتخاصمين فى شئون الفتنة أسرفوا فى التقول كل على عدوه، إما لعصبية جاهلية لم تكن قد اختفت فى نفوس المسلمين، أو لعاطفة الطمع التى تغرى بالتقرب للخلفاء واتخاذ القصص والكذب على التاريخ وسيلة إلى رضى السلطان إن كان أمويا سُب على عنده، وإن كان هاشميا سُب عنده معاوية. مسلسل الحسن والحسين هذه الطريقة التى تعامل بها المتملقون والمتعصبون مع أحداث الفتنة اتخذها مسلسل «الحسن والحسين» وسيلة فى الترويج لوجهة نظره، فمنذ حلقته الأولى أصر على الاتكاء على شخصيات مشكوك فى حقيقة وجودها أهمها ابن سبأ، وابن سبأ كما يُروى عنه، يهودى ادعى الإسلام وزعم أعداء الشيعة أنه من قاد الثورة التى انتهت بقتل عثمان بن عفان، الأمر الذى يرفضه حسين فى الجزء الأول من كتابه قائلا: «أكبر الظن أن عبدالله بن سبأ هذا إن كان ما يروى عنه صحيحا إنما قال ما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف، فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها. وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا فى أمر عبدالله بن سبأ هذا، ليشككوا فى بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنعوا على علىّ وشيعته من ناحية أخرى، فيردوا أمور الشيعة إلى يهودى أسلم كيدا للمسلمين». بينما يختزل المسلسل أسباب الخلاف بين الثوار والعثمانيين، فى قضية (الخروج على طاعة الحاكم) بشكل يتماس مع رؤية تحاول بعض الأنظمة العربية ترويجها بعدم جواز الخروج على الحاكم وإن كان ظالما، يرد حسين أمر ثورة أهالى مصر والعراق على عثمان إلى التغيير الشديد فى سياسات المالية والاجتماعية عن أيام ابن الخطاب وأبى بكر والنبى (صلى الله عليه وسلم)، فعمر اتخذ لنفسه سياسة مالية أشبه بالاشتراكية تشدد وتدقق فى مصارف أموال الدولة الاسلامية، وتضيق على من سماهم حسين بالارستقراطية الإسلامية ويقصد بهم صحابة الرسول ومن حضروا معه الحروب والمعارك، ويقول حسين: «أمسك عمر على هذه الطبقة فى المدينة، ولم يأذن لها فى أن تتفرق فى الأرض، خوفا منها وخوفا عليها. أمسك بها ضنا بها وضنا بالمسلمين على ما نسميه هذه الأيام باستغلال النفوذ. فقد استقامت أمور المسلمين وأمور هذه الطبقة نفسها مما أمسكها عمر فى المدينة ووقفها عند حدود معينة من الحركة والاضطراب، فلما تولى عثمان خلى بينها وبين الطريق (أى سمح لهم بالذهاب لأى مكان) لم تلبث الفتنة أن ملأت الأرض شرا، لا لأن هذه الطبقة أرادت شرا أو عمدت إليه، بل لأنها استكثرت المال والأنصار من جهة، ولأن الناس افتتنوا بها من جهة أخرى». رسالة لمعاوية إلا أن كل هذه الأزمات لم تفجرها إلا رسالة لمعاوية رفض فيها البيعة لعلىّ وأعلن أنه سيحاربه حتى يسلم قتلة عثمان، هنا بدأ علىّ فى تجهيز جيش لوأد الفتنة التى بدأها معاوية، واستأذن طلحة والزبير فى الخروج إلى مكة معتمرين وهناك التقوا زوجة الرسول السيدة عائشة تنقم على علىّ لأنه لم يقتص لعثمان، واتفق الثلاثة على أن يخرجوا إلى البصرة وأن ينصروا معاوية على علىّ، فخرج علىّ وراءهم ليردهم عما أرادوا. هنا يرفض طه حسين محاولات معظم من تعاملوا مع قضية الفتنة فى النزوع إلى تنزيه أصحابهم عن كل خطأ أو هوى، فيسرد حسين جذور الخلاف بين عائشة وعلى، إذ إنه أشار على النبى (صلى الله عليه وسلم) بطلاقها فى واقعة حديث الإفك، ولم تنس له عائشة هذا الموقف ما حيت، وكما أشرنا سابقا يرصد حسين التغير الذى لمسه الصحابة فى سياسة علىّ التى أراد أن يقرها. لعل أبرز ما قد يمتعك فى قراءة كتاب طه حسين أنه ذهب فى بحثه بعيدا عما اكتفى به أنصار الشيعة أو السنة أو الخوارج فى رسم تفاصيل حياة كل شخصية كان لها دور صغر أو كبر فى حديث الفتنة، فتجده يرسم شخصية معاوية بن أبى سفيان وعلى وولديه بحيث لا يمكن اختزال الخلاف فى الأسباب الظاهرة والشعارات التى حشدت الناس لقتال بعضهم بعض. فيروى حسين وقائع معركة الجمل بأدق ما يكون الوصف، إذ خرجت عائشة على جمل تحمس الناس على الاستمرار فى قتال على، قائلا: «اقتتل القوم حتى مل بعضهم بعضا، ثم هذه صيحات ترتفع فى الجو تدعو المقاتلين إلى أن يطرفوا، أى يقطع بعضهم أطراف بعض، وهم مقبلون يقطع بعضهم أيدى بعض ويقطع بعضهم أرجل بعض. ولا يكاد أحدهم يقطع طرفه حتى يستقتل فيقتل. وكاد أصحاب عائشة أن ينهزموا. ولكن الجمل قائم لا يريم وعليه هودجه لا يضطرب، وفى الهودج أم المؤمنين تحرض الناس فتردهم إلى الحماسة والجرأة. وقد رأى على هذا القتل الذريع وصاح بأصحابه: اعقروا الجمل فإن بقاءه فناء العرب». وبعد هذه المعركة التى قتل فيها طلحة، ارتد الزبير وعائشة إلى المدينة وندما على قتل المسلمين للمسلمين، لكن معاوية ماض فى طريقه للحرب مع على حتى كاد على أن يهزم معاوية الذى لجأ وصاحبه عمرو بن العاص إلى حيلة رفع المصاحف الشهيرة.