كنت أود أن يكون هذا الخطاب مغلقا لايطلع عليه أحد، غير أنى آثرت أن يكون مفتوحا بعد أن تناولت الصحف ووسائل الإعلام بالنشر والبث، أمر استدعاء ثلاثة من كبار رجال القضاء والتحقيق معهم، لمجرد إبداء الرأى فى نظام المحاكم العسكرية دون الإساءة أو التعرض لأحد من القضاة العسكريين الذين نجلهم جميعا ونحترمهم، ولعلى بفتحه أيضا أستطيع أن أمحو إساءة لحقت بزملاء أعزاء، من خيرة رجال القضاء، وأقدم لهم بعضا من الترضية، لهم أن يقبلوها أو يرفضوها، فالاستدعاء والتحقيق تم بطريقة مهينة، وغير مسبوقة، سواء فى سببه أو كيفيته، ولهم وحدهم أن يقدروا ويقرروا . إن المعاهدات والمواثيق الدولية والإعلانات الدولية لحقوق الإنسان تشهد بالإجماع على أن حرية التعبير تعتبر حقا أساسيا من حقوق الإنسان، وأن حق التعبير لايجوز فرض قيود عليه بطرق أو وسائل مباشرة أو غير مباشرة مثل إساءة استخدام رقابة الحكومة أو الرقابة الخاصة على الصحف أو الإذاعة المرئية وغير المرئية أو الأجهزة المستخدمة فى نشر المعلومات، أو بأي وسيلة أخرى تهدف إلى عرقلة حرية التعبير، وتداول المعلومات, وتبادل الأفكار والآراء . فقد نصت المادة 19 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان على أن لكل شخص الحق فى حرية إبداء رأيه وفى حرية التعبير، وهذا الحق يتضمن حرية التمسك بآرائه بدون تدخل فيها، وكذلك السعى وراء تلقى ونقل المعلومات والأفكار من خلال أى وسيلة إعلام . ونصت المادة 8 من مبادئ الأممالمتحدة الأساسية لاستقلال السلطة القضائية على أنه يحق لأعضاء السلطة القضائية شأنهم فى ذلك شأن المواطنين الآخرين التمتع بحرية التعبير والاعتقاد والانتساب والتجمع . وهو ما أكده الإعلان الدستورى الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بنصه فى المادة 12 منه على أن حرية الرأى مكفولة، ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير فى حدود القانون، والنقد الذاتى والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطنى . وحق الفرد فى التعبير عن الآراء التى يريد إعلانها والتى كفلها الإعلان الدستورى فى المادة 12 ليس معلقا على صحتها، ولا مرتبطا بتمشيها مع الاتجاه العام، ولا بالفائدة العملية التى يمكن أن تنتجها، وإنما أراد الإعلان الدستورى بضمان حرية التعبير، أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة، بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام، فلا تكون معاييرها مرجعا لتقييم الآراء المختلفة، ولاعائقا دون تدفقها، أو اختيار الوسائل التى يقدرون مناسبتها وفعاليتها سواء فى مجال عرضها أو نشرها . غير أن البعض ممن يقع تحت تأثير الإغراء أو الأهواء، يترك جنون العظمة ينتصر على حرية التعبير على أنها من الممنوعات مثل المخدرات، ولكن يتعين علينا أن نضع فى اعتبارنا أن الآمال المحلقة العالية لمستقبل بلدنا يجب أن تكون مبنية على أساس الإيمان بأن حرية التعبير وتدفق المعلومات وتبادل الأفكار والآراء يعمل على تجنب الفوضى أكثر مما يتسبب فيها، ويجنب البلاد أعمالا إرهابية أكثر مما يغذيها، ويكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان أكثر مما يحرض عليها، وأن حرية التعبير أمر حتمى، ولا يوجد طريقة أفضل للديمقراطية والمشاركة السياسية، والتقدم والاستقرار، والعدالة الاجتماعية والثقافية، ولا طريقة أفضل لكبح جماح الطغيان والاستبداد والاستغلال، والعجز فى الآداء، ولاطريقة أفضل لمحاربة الفساد ووأده قبل أن يستفحل، ولاطريقة أفضل للإبداع والابتكار، وتغذية روح الإنسان، أفضل من بلد يلتزم بحرية التعبير وتداول المعلومات، وتبادل الآراء والأفكار بحرية تامة وبلا أي قيود . إن إحالة ثلاثة من كبار رجال القضاء إلى التحقيق لمجرد إبداء الرأى فى نظام المحاكم العسكرية دون التعرض للقضاة العسكريين الذين نكن لهم كل تقدير واحترام، تعد سابقة خطيرة وتعد صارخا غير مبرر على حرية الرأى والتعبير، وردة إلى عهود الظلم والطغيان، وهل ما شهدته مصر فى العهد البائد من فساد أذهل العالم كله، سوى نتيجة لكبت الحريات، والحجر على حرية الرأى والتعبير وتداول المعلومات، وهل قامت الثورة إلا من أجل حق الشعب فى التعبير والكلام والكتابة بحرية وبدون إذن، وبلا رقابة وبلا سيطرة. إن إبداء الرأى فى النظم القضائية المختلفة، وصولا إلى اختيار أفضلها أمر محمود للباحثين غير مذموم، ولا يستوجب تحقيقا أو مساءلة وحسابا، وإنما الشكر والامتنان على البحث والتمحيص لإبراز المزايا، وكشف العيوب فى كل نظام، والأخذ بأفضلها . وليكن إحالة بعض البلطجية والمجرمين إلى المحاكم العسكرية الآن له ما يبرره، ذلك أمر نختلف أو نتفق عليه، والاختلاف فى الرأى لايفسد للود قضية، ويجب ألا يغضب أحدا ولا يحزنه، ولكن كافة العهود والمواثيق الدولية على أن إحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية أمر غير مرغوب فيه ومحظور . *نائب رئيس محكمة النقض