تتحمل جريدة الجارديان البريطانية جانبا كبيرا من المسئولية عن البلوى المتمثلة في صعود الإخوان المسلمين في مصر وفي عدد من الأقطار العربية ، وهي البلوى التي تنتفض ضدها اليوم قوى رسمية وشعبية لا يستهان بها في هذه الأقطار. لا تعبر الجارديان عن قطاع واسع من الرأي العام البريطاني لكنها تعد من بقايا يسار مرتبط بالصهيونية ومتمسك برؤية توراتية قديمة ومشبعة برومانسية مسمومة تجد جذورها في خطاب الجنرال بونابرت الذي سماه الكاتب الروسي العظيم ليو تولستوي «المسيخ الدجال» وقد كان بونابرت كذلك فعلا في غزوتيه الفاشلتين في مصر وروسيا ، ورغم أن عبقرية تولستوي خلدت نضال الجيش والشعب في روسيا ضد زعيم دجالي أوروبا الغربية الذين يريدون إعادة صياغة العالم وفق أهوائهم وامراضهم العقلية المزمنة ، فلم يجد النضال المصري ضد بونابرت وجنرالاته من يخلده ويكشف للعالم أسرار عظمته رغم أن نضالنا كان بداية رائدة لسلسلة من النضالات الشعبية التي واجهت أوهام الفرنسيين وغيرهم من الغزاة في كل مكان . جاء بونابرت إلى مصر ليواجه «الطغاة المحليين» وهم المماليك الذين كانوا منحازين لروسيا ومتفاهمين مع بريطانيا زاعما أنه يريد أن يحرر المصريين من طغيانهم وكأنه ولي أمرهم وقلبه محروق عليهم . وحاول هذا الدجال المغامر أن يستعين على المماليك بعلماء الدين الذين أعطاهم في منشوره الأول حق حمل السلاح . لكن خاب مسعاه ولم يظهر في مصر من يربط التدين بحمل السلاح إلا مع ظهور حسن البنا برعاية بريطانية في 1928. وكما حدث في مرات كثيرة في بلدان مختلفة فإن ما كانت تفشل فيه الكولونيالية الفرنسية النزقة كانت تنجح فيه – ولو لبعض الوقت - الكولونيالية البريطانية الحذرة والمتأنية. وكما اقترن مسعى بونابرت لعسكرة رجال الدين في مصر بندائه الموجه من فوق أسوار عكا لما أسماها الأمة اليهودية فقد اقترن مشروع الإخوان المسلمين البريطاني في منطقتنا برؤية بروتستانتية لشرق أوسط «يهودي - إسلامي» ولا يخفى على أحد أن التقدم الذي يحرزه هذا المشروع صحبه تراجع للمكون المسيحي في المنطقة العربية بعد أن كان مسيحيو مصر والشام في طليعة الإداريين والسياسيين والمثقفين في بلادنا. ورغم أن الثقافة اليهودية والتاريخ اليهودي ظلا حتى مطالع القرن التاسع عشر يتعاليان على القومية فقد نجح دجالو أوروبا في تزييف الوعي اليهودي بتخليق القومية الصهيونية التي هي مصدر عذاب اليهود والعرب اليوم. من هذه الرؤى المريضة ينطلق الكتاب الأوروبيون الذين يروجون لحكم ثيوقراطي (سلطة دينية) في الشرق العربي . وفي طليعة هؤلاء كتاب الجارديان البريطانية وبينهم ذلك الرجل الذي كتب افتتاحية الجارديان في الثامن والعشرين من يوليو والذي يرى كل ما يجري في مصر اليوم بعيني«أخ عامل» في جماعة الإخوان ذات النكهة الاسكتلندية القوية . وباعتباره طرفا مباشرا في الصراع الدائر اليوم في مصر فهو يوجه اللوم لوزير الخارجية الأمريكي بزعم أن الوزير «تجنب الحقيقة الصلبة المتمثلة في أن الجيش يجب أن يتراجع إذا كان لحوار ذي مغزى أن يبدأ». وهذا يشير إلى أن ذلك الكاتب يتوهم أنه يجب على القوى المدنية والعسكرية المصرية المناهضة للثيوقراطية أن تعرف أنها تتفاوض ليس فقط مع مجموعة من تجار الدم في رابعة العدوية ولكن أيضا مع المندوب السامي البريطاني وقد بعث حيا. كانت لبريطانيا في 1942 كلمة نافذة في مصر بحكم الأمر الواقع وبحكم دورها كقوة تقود المعسكر الديمقراطي العالمي ضد الخطر النازي الذي كان يهدد الحضارة الإنسانية كلها. ورغم ذلك لم يقبل الكبرياء المصري رعونة وغلظة السير مايلز لامبسون في تعامله مع سيد البلاد الشرعي فاروق الأول. هذه الرعونة وهذه الغلظة أضعفت الديمقراطية المصرية ،ممثلة بحزب الوفد الذي قبل الوزارة التي فرضها البريطانيون، رغم أن زعيم الوفد ما قبل الوزارة إلا لحماية المصالح المصرية التي لا تتحقق إلا بوقوف مصر في صف قوى الديمقراطية العالمية .وأضعفت سياسات لامبسون العرش المصري، وسممت علاقاتنا ببريطانيا التي ربما كان يمكن التوصل معها لصياغات جديدة لعلاقتنا بها في ظروف عالم كانت تتشكل ملامحه آنذاك. وقد نجح انور السادات وحسني مبارك في إعادة جسور التفاهم مع بريطانيا والغرب وتعزيزها لصالح مصر وبريطانيا والعالم. لكن هذا لا يعني ان بوسع أحد في لندن ان يملي علينا ما يجب فعله. ورغم رفضي لما يفعله كاتب افتتاحية الجارديان عندما يتبع نهج الإخوان في شخصنة الصراع فسوف أستخدم أسلوبه وهو يخاطب الفريق السيسي معقبا على الملاحظة التي أبداها السيسي للرئيس المخلوع عندما نبهه إلى تخبطه السياسي. ويعقب كاتب الجارديان على ذلك متسائلا إن كانت المسئوليات الوظيفية لوزير الدفاع تسمح له بمثل هذه الملاحظة. وانا بدوري أسأل كاتب الجارديان إن كانت مسئولياته أمام الرأي العام البريطاني تسمح له بأن يقرر لمصر ما يجب وما لا يجب أن تفعله. ما يهم الرأي العام الغربي عموما والبريطاني خصوصا يتصل بأمور محددة : انتظام الحركة في قناة السويس وهو ما تحققه مصر بكفاءة عالية منذ 1956، والسلام مع إسرائيل وهو ما تضمنه مواثيق تحترمها مصر وإسرائيل، والمساعدة على ضمان أمن منطقة الخليج وهو ما يتحقق بالجهود الحربية في حالة استثنائية مثل حرب الكويت وفي حالات أهم تتصل بتأمين العمالة المصرية في الخليج وحماية الاستثمارات الخليجية في مصر، وأخيرا فهناك التعاون واستمرار التنسيق في الحرب الكونية ضد الإرهاب والتطرف وهو ما يتحقق في تدريبات النجم الساطع التي اقترب موعدها. وكل ما عدا ذلك مرهون بالإرادة الوطنية الحرة التي لا تقبل إملاء من أحد. وقد أضحكتني رؤية الكاتب للصلة القائمة فعلا بين عبد الناصر كزعيم وطني وبين كل وطني مصري معاصر. الصلة موجودة بين ناصر وبين قائد الجيش المصري ولكن ليس على النحو الذي كانت عليه قبل 1967.فمنذ ذلك التاريخ والجيش متفرغ للعمل الوطني البعيد عن السياسة إلا في لحظات استثنائية وبتكليف محدد من الشعب. ورغم أن القوى المدنية والعسكرية المصرية المناهضة للثيوقراطية، وفي قلبها عبد الفتاح السيسي، تضع الجيش في وضع المأمور باعتباره حامي الإرادة الشعبية وليس في وضع الآمر كما وضعه عبدالناصر عندما اعتبر الجيش طليعة الشعب المسلحة، فنحن ندرك أن الجيش لعب الدور الناصري ،كأداة فعالة بيد القوى الشعبية التي نزلت إلى الشارع في 30 يونية وفي 26 يوليو ،ثم سرعان ما عبر الجيش والشعب هذه اللحظة بمجرد نقل السلطة إلى القاضي الجليل عدلي منصور الذي يحكم البلاد اليوم وإلى أقوى وزارة اقتصادية في التاريخ العربي، باعتراف الكثيرين ،داخل مصر وخارجها. وأنت تسأل جيشنا عن طبيعة دوره وتتناسى المجازر المخزية التي ارتكبتها جيوشكم في العراق بدعوى كاذبة هي التفتيش عن أسلحة نووية لا وجود لها وقد ترك تدخلكم العراق في فوضى لا يعلم أحد متى تنتهي. والمهم هنا ان الدوائر الرجعية في بريطانيا أشعلت الحرب في العراق بغير إرادة الشعب البريطاني المحب للحرية والمؤمن بسيادة القانون. وهذه الدوائر ذاتها هي التي أعدت بشار الأسد لحكم سوريا وجمال مبارك للعبث بالتراث الجمهوري المصري وقبلهما صدام حسين لحكم العراق . وفي مذكرات هارولد ماكميلان اعتراف واضح بدور الرجعية البريطانية في إعداد كوادر البعث السوري والعراقي. والعالم كله يعرف صهر بشار الأسد الماسوني البريطاني البارز ومحاميه اليهودي البريطاني الذي انتقل من لندن إلى القدس بمجرد انفجار الوضع في سوريا ليضمن من القدس مكانا لبشار في سوريا الغد التي تريدون تأبيد الطائفية فيها. نعلم أن أحرار بريطانيا وهم الأغلبية الفاعلة بين أبناء الأمة البريطانية المحبة للعدل والحرية لا يرون حقائق الشرق العربي جيدا بسبب التأثير الضار الذي يمارسه كتاب مثلكم لكننا لن نفقد الأمل في أن نجعلهم يصغون لصوت العقل. ومصدر التفاؤل هو أن السلطة السياسية في مصر تستند اليوم لشرعية راسخة غير مسبوقة، شرعية قادرة على أن تدير شئون الوطن بثقة مستمدة من الشارع الذي يشهد اصطفافا بوجه العصابة الإخوانية. نحن نصنع اليوم واقعا مصريا لن يكون بوسع أحد تجاوزه، واقعا لا ترسم ملامحه الدوائر الرجعية المريضة المحاصرة برؤى توراتية ورومانسية تجاوزها الزمن، بل يرسمه الملايين الذين عجزت عن رؤيتهم في يومين من أمجد أيامنا، وفي القريب العاجل وعندما تبدأ «حربنا المقدسة» ضد الإرهاب، حسب تعبير العبقري مختار نوح، فسوف تتبدد أصوات دعاة الثيوقراطية في القاهرة وفي لندن. لا أحد يستطيع أن يقف بوجه الوطنية المصرية . هل تذكر العدوان الثلاثي؟ لم يكن نزول الملايين يوم 26 يوليو 2013 إلا تجديدا لروح النضال في 26 يوليو 1956 وإن كنت تبحث عن ناصر الجديد فلن يكون بوسعك التعرف عليه فالناصرية الجديدة ديمقراطية وهذا ما لا تستطيع أن تفهمه لأن إطارك المرجعي الموروث عن الجنرال بونابرت إطار قاصر ومنتهي الصلاحية.