مما لا شك فيه أن الإحاطة من خلال مقال صحفي بما جرى ويجري في مصر منذ بداية الثورة، والخلوص من كل ذلك لتقييم الأحداث واستشفاف دلالاتها هو أمر غير سهل ولا ميسور.. خاصة أن مصر وغيرها ليس فيها ملاك خالص ولا شيطان كامل. كما أن الأحداث غير متساوية لا في القيمة ولا في المدلول حتى لو تساوت في بعض الظواهر.. وعليه فلا بد من قراءة الصورة العامة والخلوص لدلالاتها المهمة وعدم الغرق في التفاصيل الكثيرة التي تصرف عن الجوهر الذي لا تخطئه العين ولا تختلف فيه الأفهام.. وتحت هذا الاعتبار أقول: لقد كشفت ممارسات جبهة الإنقاذ ومن لف لفها وسلوك إعلامهم وطريقتهم في معارضة الإسلاميين ثم الانقلاب والدموية التي انتهوا إليها واحتقارهم لنتائج صناديق الاقتراع ثم لجوؤهم إلى استخدام كل الطروحات التي كان السيد مرسي ولسنة كاملة يدعوهم لها وكانوا يرفضونها، كشفت أن العناوين السياسية والفكرية الجميلة والرائقة التي طالما زعقوا بها ونالوا بها التأييد والقبول الشعبي كالديمقراطية والحوار والوطنية وعصمة الدم الوطني واحترام المقدسات الوطنية والدينية.. كلها لا تعدو في وجدانهم أن تكون "حصان طروادة" ليخترقوا بها وعي الأمة من أجل الوصول إلى الحكم الذي يرونه حكرا لهم ووقفا عليهم وميراثا بينهم من الأب للابن ومنه إلى الحفيد ثم ابنه وحفيده.. وكشفت أنهم من دون السلطة ومميزاتها وإمكاناتها عدميون لا برامج لديهم ولا رؤية ولا رسالة، وأن عدّتهم لاكتساب رضا الداخل هو الاستغفال، ولاكتساب رضا الخارج هو الوقوف في وجه الإسلاميين وأن يحبطوا كل محاولة جادة للإصلاح والتغيير في بلادهم.. وكشفت أنهم مع أعداء الأمة ومع الغرب قلبا وقالبا في سياق واحد، يقدمون له التأليه والمصالح ويفتحون له البلاد ويُخضعون له العباد، فيما هو يتمنن بقبولهم تابعين له ويمنحهم مكتسبات العبودية.. وكشفت أنهم انتهازيون وفي سبيل مصالحهم وتمرير مواقفهم يتنقلون بين اليسارية واليمينية والوطنية وبين التوتير والاستقرار.. ليست لهم عقيدة يؤمنون بها ولا بمصر ونيلها وأهراماتها التي طالما نشدوا لها الأناشيد وعبدوها من دون الله، أما عندما يأمنون الفضيحة وعندما تغيب العين الساهرة فتتوقع منهم كل خبيثة، يخطفون ويحرقون وينتهكون الأعراض ويدنسون المقدسات ويدوسون الوطن والدين والخلق وينقضون العهد ويخونون الأمانة.. وأما جرأتهم على دين الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم كما فعل المدعو "حامد عبد الصمد" وهو من قياداتهم الذي اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاشية والاستبداد وبأنه قدوة الإسلاميين في قهر المخالفين ثم لم يستنكر عليه ذلك منهم أحد.. قد كشف ذلك أن مشكلتهم ليست مع الإخوان ولا مع الإسلاميين (أو من يسمونهم إسلامويين) ولا مع التطرف والإرهاب، ولكنها مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع العقيدة الغراء ومع الإسلام أصولا وفكرا وسلوكا وتهذيبا ومع الطهر والنزاهة وثقافة الاستقلال.. أما مهاترات قضاتهم ضد الرئاسة واستعداء رموزهم الخارجَ على الداخل، ثم انخراط المحكمة الدستورية بأعلا هيئتها في الانقلاب الدموي، وقبول رئيسها أن يكون مخلب غدر للرئيس الشرعي والدستوري والمنتخب، وأن يقسم الرئيس المنتسب لها على دستور ألغي قبل قسمه بقرار انقلابي، ثم يحلف أنه سيحافظ عليه فيما هو متلبس بخيانته وإلغائه، ثم إن تضفي المحكمة الدستورية بكل هيئتها العمومية مسحة القانونية والدستورية على انقلاب والخيانة.. كل ذلك يصدّق ما يقال عن أن تعييناتهم كانت تتم بالوساطات والمحسوبيات، كما يكشف عن أن مقدسات القضاء والقانون والدستور ليست في وجدانهم وأنها في حالة انهدام وانعدام تحت أيديهم. . أما مشاركة شيخ الأزهر في الانقلاب بفتواه ثم خروجه على الناس مرتين في ثلاثة أيام ليستغفل غضب الملايين الهادرة ينوه بحرمة الدماء ويتوسل الهدوء، وهو الذي لم نره يخرج مرة واحدة طيلة سنة كاملة من حكم مرسي ليفعل ذات الشيء أو ليدين ما يقومون به من قتل وعنف وإراقة دماء وحرق مقرات أو ليؤنب المنفلتين الذين حولوا ميدان التحرير لميدان تحرش واغتصاب وسرقة.. كل ذلك من شيخ الأزهر يكشف أنه بهذه الحال وهذا المنطق ؛ إنما ينطلق في مواقفه وفتاواه لا من علم ولا دين ولكن من كونه صاحب موقف سياسي متآمر ومنحاز، وبصفته عضوا سابقا في لجنة السياسات العليا في الحزب الوطني المنحل الذي صار من الواضح أنه ليس منحلا إلا في الظاهر فقط. آخر القول: أرى أن تبذل الجهود في رصد ما تؤكده الأحداث في مصر من دلالات وإشارات وما تنبئ عنه من منطلقات وقناعات حول هؤلاء الذين استغفلوا قطاعات من الأمة لزمن مضى ويجب أن ينتهي.. هذه هي العبرة الأساس والقيمة الحقيقية التي تستحق الأمة وتستحق مصر أن تحصل عليها مقابل خسارة سنتين ونصف من عمر الثورة ومقابل الدماء البريئة التي سفكت حتى الآن.. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية