في الستينيات انشغل جيلنا بكتاب «مصر مجتمع يبنيه العسكريون» لأنور عبدالملك وفي العقد الأول من القرن الحالي انشغل بعضنا بكتاب «يتحكمون ولا يحكمون» الذي عالج فيه ستيفن كوك الوضع الخاص للعسكريين في مصر وتركيا والجزائر، وبغض النظر عن أوجه التشابه والاختلاف بين ما جاء في كتابين مهمين لكاتبين مهمين عن موضوع مهم فمازال العسكريون في مصر تسبق ممارساتهم المنظرين الاستراتيجيين، بل وتسبق منتقديهم، فمن ينتقدون العسكريين المصريين (داخل مصر وخارجها) لا يخرجون عن نطاق الانتقادات التي وجهها جمال عبد الناصر للمشير عامر ومجموعته، أو عن الانتقادات التي وجهها أنور السادات لمن أسماهم مراكز القوى، وأستثني من هذه القاعدة العناصر التكفيرية التي لا منطق لها. وقد أذهل العسكريون المصريون العالم ثلاث مرات: في يوليو 1952ثم في أكتوبر 1973 ثم في يناير 2011. أكتوبر 1973 تاريخ يعلو على السياسة ويسعى للتمسح به من يستحق ومن لا يستحق شرف الانتساب إليه، لكن العلاقة بين 1952 و2011 هي علاقة مباشرة، ففي المرتين تحرك الجيش المصري ليفتح بوابات التاريخ أمام حركة الشعب، في المرة الأولى وقف الجيش أمام الشعب ليقوده باتجاه المستقبل، وفي المرة الثانية وقف الجيش وراء الشعب الطالع إلى المستقبل، ظهيرا له ومدافعا عن حركته وضامنا لتواصلها حتى تبلغ ما تريد بلوغه. في المرة الأولى، في 1952، أصبحت مصر مجتمعا «يبنيه» العسكريون وفي المرة الثانية، في 2011، صارت بلدا «يحميه» العسكريون، أي أن المؤسسة العسكرية المصرية انتقلت من موقع القائد إلى موقع الحامي، وهو موقع كل مؤسسة عسكرية في بلد متمدين، عندما كان الدكتور عمرو عبد السميع يعد بعض دراساته العليا مطلع الثمانينات طلب مني ترجمة مادة علمية لمؤلف من جامعة السوربون الثانية جاء فيها ما معناه أن الجيش هو الحصن المنيع بوجه كل خطر يهدد النظام الاجتماعي، وقد تقبلت هذا الكلام باقتناع لأني كنت أذكر ما قاله رئيس هيئة الأركان الإمبراطورية البريطاني عام 1975 عندما هدد بتدخل القوات المسلحة إن لم تقف العناصر اليسارية في النقابات العمالية عند حدها، ولأن فرنسا هي محل الميلاد للدولة الوطنية nation-state وبريطانيا هي، كما وصفها عدوها اللدود نابليون بونابرت، بلد القانون، فقد اعتبرت ما قاله أستاذ السوربون ورئيس أركان الإمبراطورية قواعد لا مجال للشك في أصالتها. وموقع الحامي الذي قرره الواقع المصري للقوات المسلحة منذ يناير 2011 لا يعني أن تتحول القوات المسلحة إلى أداة قمع بيد الحاكم. قد يحدث هذا في بعض بلدان العالم الثالث، باستثناء بلد كبلدنا الذي يضعه اقتصاده في مكانة متردية لكن تقاليده الاجتماعية وموروثه الثقافي أرقى مما يتخيل حتى أبناؤه العاشقون لترابه. وقبل 1952 عندما كانت البلاد على حافة الانفجار كان المراقبون الغربيون لا يتوقعون من الجيش سوى أن يكون حاميا لوحدة الأمة، ومدافعا عن المهمشين والمحرومين، وحتى بعد أن تأسست الجمهورية التي قادها رؤساء امتلكوا تاريخا عسكريا، فقد أظهرت لحظات التأزم أن الشعب يقف بجوار شعبه مدافعا عنه وضامنا لمصالحه، وعلى سبيل المثال فلم ينزل الجيش إلى الشارع في 1977 إلا بعد أن تعهد الرئيس السادات، وهو – مع كل تحفظ على سياساته الاجتماعية - ابن للوطنية المصرية حقا وصدقا، للمشير محمد عبد الغني الجمسي بإلغاء القرارات التي استفزت الناس، وبأن تكون هذه آخر مرة يستدعي فيها الرئيس الجيش لحسم أمور داخلية. ورغم كل ما قيل وما يمكن أن يقال عن طموحات المشير عبد الحليم أبو غزالة ومحاولاته انتزاع الرئاسة من حسني مبارك، فقد بقي الجيش خارج دوائر السياسة، حتى فاجأ العالم بموقفه من تحولات يناير 2011 عندما وقف التاريخ يرقب جيشنا وهو ينتقل من دور «طليعة الشعب المسلحة» وهي صياغة عبد الناصر لدور الجيش من 1952 حتى 2011 إلى دور «الدرع الواقي للإرادة الشعبية»، هذا دور يسبق التنظير. دور يلاحقه المنظّرون لمحاولة فهمه والتعبير عنه. وبهذا المفهوم فالجيش لا يتدخل في السياسة ولا يستقيل من الوطنية يدعوه الوطن فيلبي نداء تلبية كل القوى المخلصة، لا يضع نفسه فوقها ولا يقف بعيدا عنها، لكنه يبقى في الوقع الذي يحتله منذ الأزل: في القلب، هكذا كان منذ عرف تاريخنا الملك المحارب أيام الفراعنة وأيام الحكام المسلمين في العهود العربية والتركية والبربرية والدرزية والجركسية والعثمانية – المملوكية وفي زمن قادة الجمهورية الأولى. لكننا نوشك أن نتجاوز الفاصل الرمادي لندخل إلى الجمهورية الثانية إن نجحنا في الإطاحة بحكم منظمة الإخوان غير الشرعي، وهنا سيبقى الجيش في القلب كما كان دوما ولكن كمكون رئيسي بين مكونات رئيسية أخرى سياسية وقانونية، وليس كعنصر حاكم، وفي الجمهورية الثانية لن تكون مصر كما كانت أيام جمال عبد الناصر وأنور السادات مجتمعا «يبنيه» العسكريون، فمصر الجديدة ستكون مجتمعا يبنيه كل أبنائها وبناتها الذين يشاركون في استخلاصه من بين مخالب الوحوش الخرافية القادمة من القرون الوسطى، مجتمعا يبنيه أبناؤه وبناته و«يحميه» العسكريون.