يريدونها أن ترتدي البكينى وتلتحف بالملاءة وفى مجون أفروديت وطهارة العذراء وفى أنوثة كليوباترا وصلابة حتشبسوت وفى شقاوة سعاد حسنى ووقار فاتن حمامة. يدعون لحريتها ويكبلونها بالأغلال، يضعون أمهاتهم في فترينات زجاجية محكمة الغلق يهيلون عنها التراب بجبهاتهم .. ولو استطاعوا لوأدوا بناتهم في أقرب سلة مهملات! هكذا ينظر الرجال للمرأة في صعيد مصر وفق مجموعة من المتناقضات ما بين التمسك بالعادات والتقاليد التليدة أو التظاهر بمسايرة التطور الحضاري بمفرداته التي تبدو شاذة على مجتمع "طيني" يستنكر كل ما هو جديد ويزداد تمسكا بالقديم. فالصورة الأنثوية الأزلية لم تتطور كثيرا في الصعيد بل ما زالت محفورة بفطريتها في الأذهان، تلك الصورة التي نراها منذ أن حاولت المخلوقات أن تعبر عن أساليبها الحياتية بالنقش آو الرسم فتظهر المرأة في دور الحبيبة أو ألام الباكية الناحبة التي تعنى بالميت الراحل نحو أبديته وخلوده وهى التي تثير الرغبة وتعطى الحياة للمولود وتبدو مرغوبة ومشتهاة محترمة وحانية وهى التي تجسد نوعا من الجاذبية والضرورة وتلك الصورة الفطرية لم تتغير. والنظرة الشمولية للرجل الصعيدي لشريكته في الحياة جنسية في المقام الأول وحتى في الأغاني الشعبية الجريئة التراثية في الصعيد والتي يتغنى بها الأهل ليلة الدخلة لا تخلو من تلك المفردات الجنسية الصريحة التي تصف ما يحدث في تلك الغرفة المغلقة. الجنس وحده هو الذي يهرول نحوه الرجل الصعيدي, لكنه جنس منقوص وربما يشبه كثيرا التكاثر الذي تمارسه باقي المخلوقات التي تشاركنا الحياة في هذا الكون. ونظرة المرأة في الصعيد للرجل لا تختلف كثيرا عن نظرته إليها فإحدى نساء الشوراع الضيقة أجملت واجبات الرجل الصعيدي في المنزل بأنه القائم بالعملية الجنسية: لم تقصد تلك المرأة التي كانت تتهامس مع جارتها الشابة التي أنجبت بنتا أن تهمش الرجل آو تعدد من مزايا البنات بل قدمت لنا رؤية السواد الأعظم من نساء الصعيد للرجل، فهي تريده فحلا جنسيا على الفراش وعاجزا جنسيا في الشارع ... تريده خيال مآته في المنزل وطاغية في الخارج! وتجبر الأب والأم المهمشة خبرات مختزنة لدى الفتاة الصعيدية تجعلها لا تعيد صياغة أفكارها تجاه وحدانية البحث عن الأمومة في حياتها، إنها ارتضت بالقناعة أو بالإجبار بذلك الإطار التي وضعت فيه فهي مجرد "ولية" تابعة للرجل ويكفى أنها العار الذي تبتلى به الأسرة الصعيدية و "العار" هو اللقب الذي يخلعه الصعايدة على بناتهم غير المتزوجات ومعنى أن يسلم الأب الصعيدي بأن البنات عار فالنتيجة تكون ضرورة وأد هذا العار بالزواج المبكر. لم تكن سنة 1899 مجرد سنة عادية عند المصريين يقدمون فيها الاحترامات لأفندينا الجاثم على صدورهم أو يقوم أحد الوطنيين باغتيال أحد قيادات الاحتلال البريطاني أو المقارنة ما بين بقاء مصر في ظل السيادة العثمانية أو الاستقلال التام، بل إن المصريين انشغلوا بقضية أخرى هي "البدعة" التي كادت أن تؤدى إلى انفراط عقد المجتمع. قاض شاب درس القانون في فرنسا وجاء إلى بلاده بأفكار بدت غريبة في ظاهرها مجرد بدعة من شاب متفرنج مبهور بالحضارة الغربية وبفجور نسائها، انه يريد أن تخلع المصريات النقاب التركي وتتعلم الفتاة المصرية حتى المرحلة الابتدائية وتشارك المرأة الرجل العمل ويالها من بدعة في عصر كانت فيه الطرابيش التركية قد حجبت عقول المصريين عن الفكر المستنير وقد دفع "قاسم أمين" ثمن أفكاره التقدمية التي حرضت "الحريم" بمفهوم القرن التاسع عشر على التمرد على القهر الذكورى مات قاسم أمين وهو في الأربعين من عمره أي بعد تأليفه لكتاب تحرير المرأة بثلاث سنوات والتاريخ يؤكد انه تعرض لضغوط من أصحاب الطرابيش الذين قادوا الكثير من المظاهرات الساخطة ضده، بل ذهبوا إلى بيته وطالبوه بأن يسمح لهم بالجلوس مع زوجته وابنتيه ولكن المدهش أن أ حد أصحاب الطرابيش المناهضين لأفكار القاضي الشاب كان المناضل المصري مصطفى كامل الذي جاب كل بلاد العالم مناديا بالقضية المصرية وكان صديقا للكاتبة الفرنسية جولييت ادامز ومعجبا بأفكارها! مات قاسم أمين بعد أن أشعل فتيل معركة ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا ولم تكن أفكار قاسم أمين تقاليع مستوردة افتتنت بها بعض النسوة المصريات أمثال ملك حفني ناصف ونبوية موسى ولم يكن إعجاب هؤلاء النسوة بهذه الأفكار مجرد سبب واه للتشبه بالنساء الغربيات آو للتحرر من ثقل الملابس اللاتي كن ترتدينها والتي وصفها لنا المستشرق الإنجليزي"إدوارد لين"بأنها توليفة من أثواب القماش التي تكفى لتشغيل مصنع ولكنها كانت دفاعا عن حقوق مشروعة للمرأة المصرية التي كفلها لها الدين قبل الدستور وكانت هذه الحقوق قبل تلك الحركة حبيسة قمقم اسمه القهر الذكورى. "حقل ألغام ممنوع الاقتراب" لافتة وضعها الصعايدة على العمل السياسي لافتة تحذيرية شديدة اللهجة تتراكم عليها الكثير من الموروثات التي لا يمكن أن تمحوها الإرهاصات الدخيلة على مجتمع الصعيد ولا التطور الذي فرض نفسه دون أن نسعى خلفه، إنه إيمان مطلق بأن السياسة قاصرة على فئة معينة من مجتمع الصعيد وأنه من المحذور أن يخترق البعض من الدخلاء هذا المجال فالقبلية تلك الايدولوجية الراسخة في الكيان الصعيدي قد وقعت منذ زمن ليس بقليل عقد احتكار أبدى مع السياسة وكأنها ارث تتقاسمه قبيلتان آما الآخرون فقد ارتضوا أن يلعبوا دور الحاشية التي تفترش الأرض كالسجاجيد الفارسية التي تدوسها أقدام السلاطين ,وعندما يخرج ويتجاسر فرد لا ينتمي إلى إحدى هاتين القبيلتين ويطالب بجزء من الكعكة السياسة فإن أول من يتصدى له هم هؤلاء الحاشية وهم في الغالب من عشيرته. وفى أذهان الصعايدة مختزن هلامي يشبه الفلاش باك السينمائي بدأ من البوليس السياسي في عقد ما قبل الثورة ثم معتقلات الحقبة الناصرية وهؤلاء الزائرون غير مرغوب فيهم الذين يبدأون رحلة الانتقاد الإجباري عند الفجر وأخيرا سجون السادات التي طالت معظم رموز مصر وهذا الشريط السينمائي يعمل ذاتيا داخل أدمغة الصعايدة، فلو علموا نية البعض في الانخراط في السياسة يسارعون بالترهيب والتحذير كذلك فهم ينظرون لمن انخرطوا في أحزاب المعارضة وكأنهم انخرطوا في تشكيل إرهابي أو عصابى أو إن أحزاب المعارضة منظمات سرية تعمل في أنفاق تحت الأرض هدفها الانقلاب السياسي والانفراد بالسلطة إنها سياسة الحزب الواحد المنحل الذي كان يهيمن على كل شيء حتى عقول البشر تلك السياسة التي فرضت على المصريين ببعض الشعارات الحماسية البلهاء بعد فترة من الخنوع تارة وبالتجويع تارة أخرى الصعايدة مصابون بفوبيا السياسة أو الخوف من السياسة فقد تحولوا من رجال ذوي شوارب كثيفة منحتهم كاريزما منزلية عريضة على زوجاتهم وأبنائهم إلى قطط سامية أليفة تقتات على الفتات السياسي الذي يتساقط من موائد القبلية ويمكن ملاحظة ذلك في تأخر التفاعل مع ثورة 25 يناير في الصعيد،إن أصحاب الشكيمة والبأس الشديد يرهبون السياسة فماذا عن نسائهم؟ النساء في الصعيد ينظرن للسياسة بنظرة مغايرة لنظرة الرجل فهي تبدو لهن كثمرة التين الشوكي "تريد أن تأكلها ولا تقوى على لمسها "هكذا تبدو السياسة فالمرأة في الصعيد تريد ممارسة السياسة كحق لها تحقق فيه ذاتها وتبحث عن اهتماماتها داخل نطاقه وتشبع وتنمى مواهبها الكامنة داخلها ولكن تبقى العادات والتقاليد والنظرة الذكورية الهامشية التي تتحول إلى نظرة دونية أحيانا كحائط ذي ارتفاع هلامي يفصل بينها وبين المشاركة السياسية. فالأب الصعيدي وافق على مضض على خروج ابنته للعمل ولا أحسب أن الصعايدة كانوا قد ارتضوا بخروج بناتهم للعمل لولا الظروف الاقتصادية الطاحنة، فماذا لو جلست فتاة وسط مجموعة من الرجال في مقر حزبي؟ انه خروج عن المألوف فكيف يعبر"العار" عن نفسه وهو يجب وأده ، ولا مجال للشفقة على نساء الصعيد فهن يستطعن التمرد على هذا الإطار الضيق الذي وضعن فيه وممارسة العمل العام هي السبيل إلى ذلك. وتحطيم أصنام المفاهيم المغلوطة هي البداية فالسياسة لا تعنى مخالطة الرجال آو التخلي عن المبادئ الدينية والأخلاقية ، فهناك سيدات مصريات مارسن السياسة من خلف النقاب في القرن التاسع عشر وفى عصر الحريم مارست "أم خليل" شجرة الدر السياسة، في عصر كان فيه الرجل هو الملك المؤله في الأرض مارست سيدة النبيلات "حتشبسوت" السياسة إنها دعوة لتخرج المرأة الصعيدية من صورتها السلبية التي وضعت فيها أو التي أصبحنا مقتنعين بها نحن الرجال.