تحتل الرموز حيزا مهما للغاية في حياة الشعوب والمجتمعات. وهي تعكس استمرار الماضي في الحاضر والإيحاء بأن الأمة التي لها ماض وحدها يمكن أن يكون لها مستقبل. لذلك تخترع الشعوب أو المجتمعات "الجديدة" تاريخا لها معظمة إياه أو تجدّ لتثبت أن المقولة خاطئة من أساسها. ولم يخطئ أحد المثقفين العرب عندما قال إن العرب محكومون بالتاريخ بل أسرى له. وهم في ظل عجزهم عن إثبات حضورهم على ساحة التاريخ المعاصر كما يجب أن يكون الحضور نراهم يتغنون دائما بالأمجاد من شعراء أو معارك أو إمبراطوريات فيما الخارج الغربي أساسا يمسك بكل مفاصل حركة مجتمعاتنا مبقيا إياها في تبعية كاملة. وغالبا ما تكون الأقليات في المجتمعات أكثر من يهتم بالرموز ويحرص على إحيائها تأكيدا بأنها موجودة لمواجهة خطر الاضمحلال لكن الأكثريات أيضا باتت تتصرف هذه الأيام كما الأقليات. نسوق هذا الكلام بمناسبة عزم تركيا على إقامة جسر معلق جديد فوق مضيق البوسفور ويقع إلى أقصى الشمال على مقربة من مدخل البحر الأسود. وهذا الجسر الذي سينتهي العمل فيه في العام 2015 سيكون الثالث بعد جسري "بوغازجي" والسلطان محمد الفاتح. اللافت في الاسم الذي سيطلق على الجسر الجديد أنه أيضاً ينتمي إلى الماضي وإلى المرحلة العثمانية بالذات. الاسم الجديد سيكون "ياووز سلطان سليم" أي السلطان سليم الأول الذي حكم ثماني سنوات بين عامي 1512 و1520 وهو والد السلطان الآخر سليمان القانوني. وضعت صحيفة تركية عنوانا رئيسا لها بعد الإعلان عن اسم الجسر من جانب كل من رئيس الجمهورية والحكومة عبدالله غول ورجب طيب اردوغان هو "سلطان آخر على المضيق". لقد منحت تركيا اسم السلطان محمد الفاتح على أول جسر على البوسفور ولا يزال. وذلك كرّمت الحقبة العثمانية. كان اختيار الاسم معقولا وهو أن السلطان محمد الفاتح هو الذي استولى على القسطنطينية عام 1453 وباتت المدينة موحدة بقسميها الآسيوي والأوروبي، رغم أن اسم محمد الفاتح يستفز الغرب لأنه أسقط عاصمة الإمبراطورية البيزنطية عاصمة الأرثوذكسية في العالم. اسم الجسر الثاني لا معنى له ولا دلالة تاريخية أو سياسية أو ثقافية، سوى أنه يعني المضيق وأعطي اسم "بوغازجي". مع إعطاء اسم السلطان سليم الأول للجسر الثالث على البوسفور دخلت تركيا في مرحلة من النقاشات لا يتوقع لها أن تنتهي قريبا. ذلك أن السلطان سليم الأول شخصية قاسية وإشكالية في علاقات تركيا مع جوارها العربي والإيراني، كما وهذا الأخطر مع كتلة كبيرة جدا من سكانها . لقد دخل سليم الأول التاريخ عندما هزم الدولة الصفوية الشيعية في إيران عام 1514 وفرض الدولة العثمانية قوة مؤثرة في الساحة الشرق أوسطية منذ ذلك التاريخ. ولا شك أن اسم الجسر الجديد لا يخلق ارتياحا لدى إيران. وسليم الأول هو الذي نجح في استعمار البلاد العربية بعد معركة مرج دابق في شمال سوريا في العام 1516 وتلاها احتلال القاهرة وسقوط مصر بيد العثماني القادم حديثا إلى المنطقة على أنقاض الدولة المملوكية.وبقيت المناطق العربية طوال أربعة قرون تحت النير العثماني شهدت خلالها كل أنواع الاضطهاد للسكان المحليين وفرض الضرائب كما ساد الجمود الحياة الثقافية والعلمية فضلا عن الثورات ضد النظام الإقطاعي كما صدامات مذهبية متعددة. إطلاق اسم السلطان سليم هذا بعد حوالي القرن على اندحار الدولة العثمانية وتفككها وتحرر العرب من السيطرة العثمانية، لا يمكن أن يكون عاملا إيجابيا في تعزيز العلاقات العربية التركية التي تمر بمرحلة سيئة على أكثر من صعيد وتعزز الشكوك في النوايا العثمانية الجديدة لحزب العدالة والتنمية في تركيا الذي يذكّر العرب بأنه "كان هنا". لكن التأثير الأكبر لخطوة إطلاق هذا الاسم ستكون في الداخل التركي حيث إن سليم الأول هو الرمز الأكبر للمذابح ضد العثمانيين في الأناضول من المنتمين إلى العقيدة العلوية وتلك المجازر هي في أساس المسألة العلوية في تركيا حتى الآن والتي تتفاقم مع انفجار الصراع في سوريا وعليها، واتخاذها أبعادا منها البعد المذهبي وهو ما دفع بالعلويين إلى إعلان غضبهم على إطلاق اسم سليم الأول على الجسر الجديد. لا يقف أحد ضد استخدام الرموز التاريخية أو الثقافية أو الفنية أو الرياضية على هذا المعلم أو ذاك. لكن بشرط أن تكون خطوة نحو اللحمة والتوحد وليس التفرقة والفتنة سواء في الداخل أو مع الأمم المجاورة. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية