ساعات قليلة ويهل علينا عيد الفطر المبارك.. والناس فى العيد مذاهب.. البعض يتأهب للسفر إلى أقاربه فى المحافظات المختلفة بينما بفضل البعض الآخر السفر إلى الأماكن السياحية والمصايف، ويظل آخرون فى القاهرة نظرًا لارتباطهم بأعمال لا تسمح بالإجازات حتى فى العيد. ومع شروق شمس يوم العيد يفضل البعض التوجه إلى المقابر لزيارة ذويهم الذين غادروا الحياة. وهناك أناس يكتفون برؤية العيد فى عيون غيرهم، يواصلون حياتهم المريرة فى الشوارع، يرون أن توافر المال فى يد زوجاتهم وأبنائهم بمثابة العيد، يسخرون أنفسهم لخدمة غيرهم أملاً فى بعض اللقيمات التى تسد رمق العائلة. وفريق رابع من الناس يستغل يوم العيد وطقوسه، محاولًا الحصول على أكبر قدر من الأموال، وعلى رأس هؤلاء سائقى الميكروباص، الذين يرفعون «أجرة السفر» من القاهرةللمحافظات المختلفة قبيل وأثناء أيام العيد. الملف التالى يرصد طقوس المصريين فى العيد.. «سفرية العيد».. عذاب فى مواقف الأقاليم تركوا منازلهم بحثاً عن الرزق، يقضون شهورًا طويلة يكدون ليلاً ونهاراً لسد احتياجات أسرهم، ومع حلول العيد، يعودون إلى ذويهم لقضاء أيام معدودة فى جو عائلى بهيج. فى موقف المنيب، حيث يقف عشرات السائقين ينادون على المسافرين، التقت «الوفد» بعدد من المواطنين الذين يحرصون على قضاء العيد مع العائلة فى الصعيد. أزمة متكررة فى المواسم والأعياد، بسبب غياب الرقابة، داخل مواقف أقاليم وجه قبلى بالمنيب يكتظ المسافرون على الأرض بسبب امتناع السائقين عن توصيل الركاب إلى محافظاتهم، رغبة منهم فى مضاعفة تعريفة الأجرة وإجبار المواطنين على الموافقة عليها، فضلاً عن إجبار المسافرين على دفع مبالغ مالية مقابل تحميل الأمتعة. يزداد الأمر صعوبة مع الركاب المجبرين على الموافقة على استغلال السائقين، فمنهم من معه أطفال رضع أو زوجته ولا يرغب فى إجهادها فى ظل ارتفاع حرارة الجو والزحام الشديد من المسافرين الذين يرغبون فى قضاء إجازة العيد كما تعودوا وسط ذويهم من الأهل والأحبة. «ماقدرش أعيّد من غير أهلى».. قالها عبدالفتاح جمال، بلهجة صعيدية، مشيرًا إلى أنه حصل على بكالوريوس التجارة، وقصد الجيزة للتقدم فى إحدى الشركات واجتاز عدة اختبارات حتى تم تعيينه، وبعدها أصبحت الجيزة محل إقامته بدلاً من قنا. وتابع: «أقضى شهورًا طويلة فى العمل ومع حلول العيد أقضى الإجازة مع الأسرة.. فلا يحلو العيد إلا مع والدى ووالدتى». والتقط أطراف الحديث شاكر على، حداد، قائلاً، أنه متزوج ولديه 4 أبناء فى مراحل تعليمية مختلفة، ويقضى شهورًا طويلة فى الجيزة للعمل فى المعمار، ومع حلول العيد يحرص على قضائه مع الأسرة، حيث يذهب إلى بلدته سمالوط التابع لمحافظة المنيا. بلهجة صعيدية، استهل فرغلى عبدالباقى، حديثه، وقال إنه من مواليد محافظة قنا، وجاء للقاهرة للعمل فى مجال المعمار والسمسرة، ويحرص كل عيد على العودة بصحبة زوجته وأبنائه إلى الصعيد لقضاء العيد فى جو عائلى. يستكمل فرغلى حديثه قائلًا إن محافظات الصعيد لم يعد بها مجال لكسب الرزق كما هو الحال فى القاهرة، ولهذا يأتى المئات من الصعايدة إلى القاهرة باحثين عن «لقمة العيش»، يظلون شهوراً طويلة يكدون ليلاً ونهاراً لسد احتياجات منازلهم. «العيشة صعبة وصار لزامًا على كل شخص العمل ليلاً ونهاراً حتى يواكب الحياة».. يستكمل «فرغلي» حديثه، مضيفًا أن ذروة السفر إلى الصعيد يكون قبل حلول العيد بثلاثة أيام، حيث تتدفق جموع غفيرة على مواقف الأقاليم. ومن المنيب إلى المرج الجديدة، حيث عشرات الشباب يسيرون بخطى بطيئة حاملين على أكتافهم أمتعتهم الثقيلة، البعض يفضل السفر من خلال هذا الموقف عن غيره بسبب سرعة تحميل السيارة عن المواقف الأخرى. «أنا من محافظة الأقصر وأسكن فى المرج من 14 سنة حيث مقر عملى».. قالها شريف جمال، صاحب محل خضار، الذى يقضى بالأعوام فى القاهرة دون السفر إلى عائلته بسبب مصاعب السفر، وتابع: «لكى أسافر إلى الأقصر أحتاج إلى 3 أيام سفر ذهاب وعودة. الشقيانين: »خلى العيد لناسه«! فى الوقت الذى يلملم فيه الكثير من المُغتربين أشياءهم من مساكنهم استعدادًا للسفر إلى أقاربهم فى الأقاليم، وغيرهم يجهزون منازلهم ويضعون خريطة الفسحة فى أيام العيد، هناك آخرون يواصلون رحلة شقائهم بعيدًا عن جنة العيد. سخروا أجسادهم فى سبيل توفير لقمة العيش لا يبالون بفرحة غيرهم أمام أعينهم مع عائلاتهم فى الوقت الذى يحمل على أعناقه مسئولية أسرة لا تستطيع أن تعيش بدون عائد حتى وإن كان يومًا واحدًا. بملابسه الرثة يتجول لساعات طويلة فى الشوارع الداخلية لمنطقة فيصل.. يحمل على كتفيه صندوق من الجريد به بعض الأواني.. ينادى «أى روبابيكا للبيع». شكرى شوقى واحد من ملايين الشقيانين الذين يكتفون برؤية فرحة العيد فى عيون غيرهم، يواصل عمله فى سبيل توفير بعض اللقيمات لأسرته. صاحب الخمسين عامًا أب لأربعة أبناء جميعهم فى مراحل تعليمية مختلفة، جاء من محافظة البحيرة منذ 20 عامًا واستقر فى منطقة المنيب وبعدها جاء إلى فيصل وقال: «أنا زى دود الأرض لا ليا صاحب ولا مكان». يوضح البائع المتجول حديثه بأن ليس لديه صاحب من كثرة سعيه وراء لقمة العيش التى تعجزه عن المشاركة فى الواجبات الخاصة بالصداقة والأهالى والعائلة، ومع مرور الوقت عزف عن الجميع وبات يعيش لأسرته فقط، وليس له مكان، فهو يبحث عن لقمة العيش بحسب احتياجات كل مكان. «خلى العيد لناسه».. قالها «شكري» بامتعاض شديد، ففى الوقت الذى يرى فيه الجميع يتنعمون بأجواء العيد، يترك هو أسرته فى سبيل التجول على بعض الجنيهات. من جانبه، يفضل عبدالعزيز رمضان، الذى يعمل فى نفس المهنة، بقاءه فى القاهرة والاستمرار فى عمله عن العودة لأسرته.. يفضل أن يرسل بعض الأموال لأبنائه وزوجته لقضاء العيد أفضل من أن يعود لهم مفلساً.. لا يبالى بأجواء الفرحة وهو وحيدًا. «لقمة العيش دلوقتى صعبة.. لما أبعت فلوس يعيدوا.. أحسن ما أنزل ليهم وأنا مفلس».. قالها عبدالعزيز رمضان، بحسرة شديدة، مشيرًا إلى أن طبيعة عمله فى «الروبابيكيا» تجعله قد يجلس فى سكنة لأيام طويلة لا يجد فيها قوت يومه. «العيد بالنسبة لى أن عيالى يكون معاهم فلوس يصرفوا».. يستكمل بائع الروبابيكا حديثه وينوه إلى أن كل يوم يعدى عليه وعلى أسرته وهم فى صحة وسلامة يعد بمثابة عيد. أما عبدالنبى خلف الله، فيجلس واضعًا يده على خده، يحاول أن يتلقط أنفاسه قليلاً حتى يستكمل يومه الشاق. فى شوارع الدقى تجده، يدفع بجسده النحيل عربته الحديدية أمامه، يلملم بعض القمامة من على جانبى الطريق، وبابتسامته الصافية يحاول أن يجذب المارة. بعض الجنيهات تحت باب الإكرامية يحاول عامل النظافة أن يتحصل عليها حتى يعود بها لأبنائه الثلاثة. «العيد عيد لما يكون فى جيبى فلوس لعيالي».. قالها عامل النظافة، مشيرًا إلى أن اليوم الذى يتحصل فيه على مبلغ مالى معقول بالنسبة له يوم عيد، فكم من الأعياد جاءت له ولم يستطيع أن يسعد أبناءه بسبب عدم توافر الفلوس. يستكمل عامل النظافة حديثه قائلاً، أن يوم العيد موسم العمل بالنسبه له، وفى الوقت الذى يكون فيه الجميع مشغولاً بالاحتفال تكثر القمامة فى الشوارع والمنازل ومنها يستطيع أن يتحصل على مبلغ مالى معقول على مدار اليوم. موسم العودة إلى «بيت العائلة» العيد فرصة للم شمل الأسر، وأفراد العائلة خاصة الذين لا يلتقون شهورًا طويلة بسبب انشغالهم بأعمالهم، ولا يستطيعون اللقاء إلا فى الأعياد فقط. مشاهد «لمة العيلة» تكون أكثر وضوحا فى محافظات الصعيد، فبعد أداء صلاة العيد، يتبادل الأهل الزيارات، حتى الأقارب الذين رحلوا عن دنيانا تتم زيارتهم فى مثواهم الأخير.. المقابر، وتكون «لمة العيلة» على المقابر لقراءة الفاتحة وفاءً لهم وإحياء لذكراهم. الكثير من الأهالى يفضلون البقاء فى المقابر بجوار أقاربهم فيما يغادر البعض لاستكمال مراسم يوم العيد وفقًا لخطته سواء بالفسح أو زيارة الأقارب فى المحافظات الأخرى. «العيد هو اليوم الوحيد الذى تتجمع فيه أفراد العائلة بعد شهور طويلة من الفراق».. قالها أحمد علام، موظف بإحدى الشركات الخاصة بالقاهرة مسترجعا ذكرياته مع عيد الفطر. وقال الشاب الثلاثينى إنه من محافظة أسيوط ويعمل بالقاهرة منذ سنوات ولا يلتقى عائلته سوى فى الأعياد فقط، وكثيرًا ما يعجز عن السفر لظروف عمله، متابعًا: «العيد هو المناسبة الوحيدة اللى أضمن فيها وجود كل أفراد عائلتى فى بيت العيلة بقريتنا وهو ما يشجعنى على السفر». يشير الشاب إلى أن من أهم طقوس الاحتفال بعيد الفطر تناول وجبة الفسيخ والأسماك.. ويقول «كثير من العائلات الصعايدة يقومون بشراء كميات كبيرة من الأسماك يوم الوقفة لقضاء يوم سعيد سواء فى النوادى الخارجية أو فى المنازل أو على المقابر. الأمر نفسه قاله هانى جمال، الذى يعمل محاسبًا، مضيفًا أن إجازة العيد بمثابة هدنة بسيطة من شقاء الغربة، ولهذا يسافر هو وأسرته الصغيرة، إلى أسرهم الكبيرة فى الصعيد. وتابع: «لا نسافر للصعيد إلا مرة كل سنة فى عيد الفطر، وتكون بمثابة هدنة من الحياة الصاخبة بالقاهرة إلى الاستمتاع بجمال الطبيعة وروعة الأشجار والهدوء والدفء وسط العائلة». والتقط أطراف الحديث راشد عبدالجليل، أحد المغتربين فى القاهرة، قائلاً إن عيد الفطر موسم لقاء الأحباب بالنسبة للصعايدة فتكثر فيها الزيجات المؤجلة، وفيها يتلاقى الكثير من أفراد العائلة ممن مر عليهم سنوات طويلة لا يلتقون فيها بسبب «دوامة» الحياة. وتابع: «إجازة العيد للمغتربين بمثابة حياة أو موت، ولهذا يواصلون العمل أياما عديدة من أجل الحصول على إجازة العيد للسفر إلى ذويهم، والبعض قد يخسر شغله ويضحى به لكى يسافر فى العيد إلى مسقط رأسه». مشاهد الوفاء.. على أبواب المقابر داخل مقابر السيدة نفيسة، يتكرر هذا المشهد، من رجال ونساء يزورون المقابر بمناسبة العيد سواء قبله بيوم أو فى اليوم الأول أو بعد انقضاء العطلة، وكأنهم يحتفلون مع أقاربهم الأموات الذين سبقوهم إلى دار الحق! «الدنيا تلاهى.. ونادراً ما نجد أهل المتوفين يتذكرونهم ».. بتلك الكلمات استهلت «جمالات»، سيدة فى العقد الخامس من عمرها، تقيم بجوار مقابر السيدة نفيسة منذ 30 عاماً، وقالت: «ولدت وعشت بجوار مقابر السيدة نفيسة، وفى طفولتى كنت أرى الزيارات على المقابر بشكل يومى، ومع مرور السنين قلّت هذه الزيارات حتى صارت شبه منعدمة، إلا أثناء الدفن. «الناس نوعين، إما وفى خالص ويزور أهله بشكل مستمر أو منقطع بشكل دائم».. تكمل «جمالات» الحديث قائلة: فى عيد الفطر تجد أفواجاً قليلة من الناس وجوههم أصبحت معتادة علينا من كثرة قدومهم على المقابر، يقضون فى المقابر يومهم كما يكون منزلهم، فى حين نجد غيرهم يقوم بدفن المتوفى وبعد دقائق يغادرون المقبرة إلى غير رجعة. حينما ترى الأهالى يقدمون على المقابر فى عيد الفطر لزيارة الأموات تشعر بالأمان.. تابعت حديثها وقالت: «استمرار زيارات المقابر فى عيد الفطر أو عيد الأم دليل على أن الدنيا لسه بخير». «أمى ماتت من 20 سنة وما زلت أزورها».. بهذه الجملة استهلت «صابرين» سيدة فى العقد الرابع من عمرها، وقالت: «منذ وفاة والدتى أحرص على زيارتها كل أسبوع، أجلس بجوارها لبضع ساعات، ثم أعود لمنزلى، وفى يوم عيد الفطر أقضى اليوم كاملًا داخل المقابر أتحدث مع والدتى المتوفاة وكأنها تجلس معى. «أتكلم مع أمى المتوفاة وكأنها بترد عليا».. تكمل حديثها قائلة إنها كانت قريبة جدًا من والدتها وكانت تعتبرها ليس فقط أماً لها بل صديقة، تتحدث معها عن كافة تفاصيل حياتها مع زوجها وأبنائها، وحينما أصيبت والدتها بالمرض ظلت ترعاها لمدة 4 سنوات حتى غادرت الدنيا. وتكمل: «لم أتعب أبدا من زيارة المقابر، وأحرص على التردد إليها فى عيد الفطر وعيد الأم.. فمن يحب شخصا لا ينساه أبدا ولا يمل من زيارته حتى لو كان متوفيا». من السيدات اللاتى يحرصن على زيارة المقابر «أم محمد» وقالت: إن والدتها توفيت منذ 4 أعوام، وأحرص دومًا على زيارتها فى عيد الأم، وفى كل الأعياد». «عمر ما ضغوط الحياة تاخدنى من أمى حتى بعد وفاتها».. تشير «أم محمد» إلى أنها كانت حريصة على زيارة والدتها والبر بها قبل وفاتها، وكانت تزورها مرة كل أسبوعين، وفى أحيان كثيرة تجبرها على الجلوس معها فى شقتها، وبعد وفاتها حرصت أيضاً على زيارتها. واستكملت: «كما فعلت أمى معى سأفعل مع عيالى لكى يزورونى وأنا ميتة»، تشير صاحبة الثلاثين عامًا إلى أنها حريصة على الحديث مع أبنائها حول بر الوالدين وثواب ذلك عند الله عز وجل. وتابعت: «زوجى يدعمنى فى زيارة أمى ويفرح عندما يجدنى بارة بأمى، وساعات كثيرة يصحبنى، وأنا أيضاً أصحبه لزيارة قبر والدته».