في مقهي الثورة العتيد بوسط البلد الذي شهد أغلب ثورات المصريين، كان النقاش حاداً بين أغلب الزبائن الذين ينتمون لحركات وأحزاب سياسية مختلفة سواء ولدت قبل ثورة يناير أو بعدها، فجر النقاش حديث الفريق عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع مؤخراً الذي أعلن خلاله عدم تدخل الجيش في اللعبة السياسية لأنه «نار لا يريد أن يلعب به أو معه أحد»، وأن «الجيش ليس هو الحل لمشكلات السياسة في مصر»، ودعوته للمصريين إلي «البحث عن سبل للتوافق»، مستبعداً أي تدخل عسكري في الأزمة السياسية في البلاد. وقال السيسي: «لابد من وجود صيغة للتفاهم بيننا.. البديل في منتهي الخطورة.. ومع كل التقدير لكل من يقول للجيش انزل الشارع لو حصل ذلك، لن نتكلم عن تقدم مصر للأمام لمدة 30 أو 40 سنة»، وكانت أغلب الآراء في المقهي تشعر بالإحباط من موقف السيسي المفاجئ الصادم. وفي ركنه القصي جلس الثائر العجوز يدخن النارجيلة ويستمع إلي النقاش الدائر بهدوء، وبين الفينة والأخري كان يأخذ رشفة من كوب الشاي الساخن تجدد الدماء في عروقه المتيبسة وتعيد إلي ذهنه ذكريات السياسة المصرية عبر أكثر من 70 عاماً، وقبل أن يطلب حجراً جديداً من شيشة التفاح، فوجئ بصديقه الثائر الشاب يجلس بدون استئذان في المقعد المواجه له علي الترابيزة، ويضع حقيبته علي الأرض، ويطلب من الجارسون كوبين من الليمونادة الباردة له ولصديقه العجوز، وقبل أن ينهي كلامه مع الجارسون، سأل الشاب صديقه العجوز عن مغزي موقف السيسي فأجاب: - هذا موقف متوقع ومنسجم مع قواعد المنطق تماماً ولا أراه غريباً، بل أراه عين العقل والحكمة. كيف؟ - أجاب العجوز وبصره يسرح نحو المجهول: هل كنت تريد من الفريق السيسي إعلان موافقته علي الإطاحة بالرئيس مرسي المنتخب؟.. لتدخل البلاد في حرب أهلية حقيقية كما يريد أعداؤها بالضبط.. إن الجيش يواجه تحديات خطيرة علي الحدود المشتركة لمصر مع الدول المحيطة بها جميعاً ويجب أن نتركه يقوم بمهامه في هدوء بدلاً من استنزافه في حرب أهلية مدمرة في الداخل، تجعل مصر عرضة للتقسيم الدولي وتصبح نسخة أخري من سوريا الآن ومن لبنان سابقاً. رشف الشاب كوب الليمونادة الباردة مرة واحدة، وقبل أن يضع الكوب علي الترابيزة قال لصديقه العجوز: ولكن الشعب لا يريد حكم الإخوان ويرفض أن يكمل مرسي مدته تحت أي ظرف بعد الأداء السيئ له في الحكم طوال ال 9 أشهر الماضية ويكفي الانفلات الأمني غير المسبوق؟ - رد العجوز بعد أن أخذ نفساً ساخناً من الشيشة التفاح: هذا «لا منطق» الثوار، لقد انتخب الشعب مرسي رئيساً بفارق ضئيل ولكنه يجب أن يكمل مدته، هذه قواعد اللعبة الديمقراطية التي قبلنا بها جميعاً، وإذا كانت هناك تحركات للأحزاب والحركات السياسية لإقصائه بالوسائل السلمية وأبرزها إجراء انتخابات رئاسية مبكرة فتلك قضية أخري، ولكن الجيش يجب أن يبقي علي الحياد كما أعلن السيسي. تقصد حركة «تمرد»؟ - نعم.. وهذه الحركة تذكرني بحركة كفاية التي كان لها دور في تنحي مبارك وثورة 25 يناير، وقد أسعدني إفراج نيابة سوهاج مؤخراً عن بعض أعضاء حركة «تمرد» لقيامهم بجمع توقيعات لسحب الثقة من مرسي لأنها لم تر أية جريمة في ذلك. ماذا تقصد بمنطق السيسي و«لا منطق» الثوار؟ - هل شاهدت فيلم «معالي الوزير» للفنان الرائع أحمد زكي رحمه الله؟.. لقد قال له في الفيلم رئيس الوزراء عمر الحريري: أنت الوزير الوحيد الذي استمر في الوزارة رغم أن اختيارك كان خطأ؟.. والمعني أن كثيراً من المقدمات الصحيحة كانت نتيجتها خاطئة، وبعض المقدمات الخاطئة كانت نتيجتها صحيحة تماماً، وعلي هذا فقد لا يبقي الجيش علي الحياد إلي الأبد، كما أعلن الفريق السيسي مؤخراً، بل قد ينزل إلي الميدان لحماية الثوار ضد مرسي كما حدث مع مبارك. هل تقصد أن حركة «تمرد» قد تنجح في إسقاط مرسي؟ - جمع التوقيعات وحده لا يكفي، لابد من نزول الملايين إلي الميدان وبقاؤها مدة لا تقل عن سبعة أيام متواصلة، لو حدث هذا لسقط مرسي فوراً ولطلب منه أوباما الرحيل الآن، والآن تعني الأمس وليس غداً. ولكن قبل الملايين لن ينزل الجيش؟ - الجيش لن ينتظر الملايين.. أي حدث كبير علي الحدود الليبية أو السودانية أو في سيناء أو القناة سيدفع الجيش للنزول فوراً لضبط الحدود ورد المعتدين وهذا هو الموقف الطبيعي، لأن صمت الجيش هنا سيدفع الدول الكبري للتحرك لحماية حرية الملاحة في قناة شريان التجارة العالمي، وقد يدفع صمت الجيش إلي نجاح مخططات الإخوان والأمريكان والإسرائيليين في تفكيكه وتحويله إلي ميليشيات لمحاربة الإرهاب ومن ثم يسهل تقسيم مصر، وهذا ما يرفضه الجيش المصري صاحب الأمجاد والبطولات. هل تقصد حرب أكتوبر؟ - أنت لم تقرأ شيئاً عن التاريخ، بطولات الجيش المصري لا تنتهي، حرب أكتوبر إحداها، ولكن الجيش المصري أيام محمد علي احتل شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام كلها وامتد نفوذه إلي بلاد الصومال، كما احتل اليونان ثلاث سنوات من 1824 إلي 1827 وكاد يحتل الإمبراطورية التركية ذاتها لولا تحالف إنجلترا وفرنسا عليه بعد موقعة نافارين 1840، لينحصر نفوذ محمد علي في مصر والسودان والصومال فقط، فهل تتوقع أن جيشاً بهذه الأمجاد يقبل أن يكون متفرجاً علي الأحداث؟.. مستحيل.