استعرضت «الوفد» أمس آراء خبراء الإسكان حول اتجاه الحكومة لإصدار قرار بحظر توصيل المرافق للعشوائيات. ورصدت «الوفد» جانباً من المشكلة التي تسيطر علي فكر مئات الألوف، سواء الذين يعيشون في المساكن الحكومية الضيقة، ويقومون ببناء عمارات موازية، فيما يعرف بالعشوائيات الأفقية، أو أولئك الذين يبنون أبراجاً في الشوارع الضيقة والحواري، فيما يعرف بالعشوائيات الرأسية. وترصد «الوفد» اليوم، جانباً من حياة العشوائيات، ومآسي من يعيشون فيها. الخطأ عادة يترتب عليه خطايا، لكن في الحالة التي نحن بصددها، نستطيع أن نقول إن الخطأ يترتب عليه انتهاك، وقهر، ومرض، وفقر. ليس من الصعب أن تري أضلع مثلث الفقر في العشوائيات التي سمحت الحكومات المتوالية منذ عقود بامتدادها وتوغلها ليس في كل أقاليم مصر وحتي في العاصمة. قرار توصيل المرافق للعشوائيات أو العدول عنه، يمثل الأول الرحمة، والثاني هو العدل الذي يجرح هذه الرحمة بيد الحكومة الإخوانية. فالعشوائيات التي يعيش فيها أكثر من 16 مليون مواطن طبقاً للأرقام المتعارف عليها، في حاجة إلي الرحمة حتي لا يزداد فقرهم فقراً، وتتحول معاناتهم إلي وحش يقضي علي الأخضر واليابس في هذا البلد، ويريها كيف تكون «ثورة سكان العشوائيات» تحت شعار «يا روح ما بعدك روح». هذا فالرحمة مطلوبة، لأناس عاجزين عن توفير مسكن مناسب، فاضطروا إلي بناء منزل صغير ولو بدون سقف علي أراض زراعية، واضطر بعضهم إلي شراء شقة مخالفة لأنها أرخص ثمناً من تلك المرخصة، كما لم يجد البعض الآخر من الأسر حلاً لأزمة السكن إلا بناء غرفتين كامتداد أفقي لمسكنه الصغير الذي حصل عليه من المحافظة أو وزارة الأوقاف، لتزويج أحد أبنائه بعد أن أصبح شراء شقة هو المستحيل الرابع بعد الغول والعنقاء والخل الوفي. المواطن المصري البسيط ضاقت به الحياة وسقطت من بين يديه كل الوسائل والحلول المشروعة، لكي يجد شيئاً من السعادة، فلجأ إلي شراء المباني المخالفة للقانون، لعله يشعر بالرضا ولو لبعض الوقت، حتي يمر عليه أحد موظفي «المحليات» بوجه من اثنين، الأول «هادم للذات» موظف شريف ينفذ القانون ويهدم المنازل المخالفة، أو يحضر موظف الحكومة بوجهه الآخر «مرتشي» يهدد بهدم المنازل، إذا لم يحصل علي الإكرامية التي عادة ما تصل إلي خمسة آلاف جنيه أو أكثر. هذا ما قاله «رمضان أحمد ميهوب» 60 عاماً وأحد سكان العشوائيات، مؤكداً أن مبلغ الرشوة غالباً ما يدبره الأهالي ببيع «جهاز العروس» التي تسكن في المنزل أو الغرفة المخالفة، فالعروس عليها أن تختار، إما سقف الزوجية أو التضحية بجهازها البسيط، و«دبلة الزواج» لتدبير مبلغ الرشوة، وكثيراً ما يتم تقسيط هذا المبلغ للموظف علي مراحل. وإلا كيف بقيت هذه العشوائيات حتي الآن؟.. سؤال وجهه لنا «رمضان» عندما شككنا في وجود موظفين مرتشين، واستطرد رمضان حديثه قائلاً: «أنا شغال بني وبنيت العشوائيات وشوفت الرشاوي بعيني»، مؤكداً أنها مازالت مستمرة حتي بعد الثورة، وما زاد الوضع سوءاً هو عدم توصيل المرافق لهذه المنشآت البسيطة. وبدأ «رمضان» يحكي معاناته وأولاده الخمسة المتزوجين في نفس المنطقة العشوائية، خلف شارع المطبعة بالهرم، قائلاً: «إن أولاده اضطروا إلي الإقامة في هذا المكان لنفس الأسباب التي دفعته للإقامة فيه منذ 60 عاماً»، وأضاف الأب أنه مواطن مصري وصاحب «البلد دي» - علي حد تعبيره - لكنه لم ير فيها طوال حياته إلا حرارة الشمس ومخلفات البناء، ولم يسمع إلا عويل الكلاب، لكنه «راض بعيشته». «رمضان» لم يعترض يوماً علي ما أسماه «القسمة والنصيب» لكن الآن لم يعد يتحمل بعدما فاض به الكيل، وزاد الهم، فقد اختطلت مياه «الطرنشات» - حفر ليست عميقة تقم بدور المجاري - بمياه الشرب التي تم توصيلها بالجهود الذاتية وبإمكانيات بسيطة دون موافقة الحي، لذا فالحياة أصبحت «سوداء» والأطفال دائمو المرض، والحشرات تسيطر علي المكان ليل نهار. لم يع «رمضان» قصدنا من كلمة «مرافق» عندما أطلعناه علي قرار الحكومة بعدم توصيل المرافق للمنازل المخالفة وأسرع قائلاً: «إحنا مش عاوزين حاجة بس يوصلولنا الميه والمجاري ويسيبونا في حالنا». حينها ضحكت الطفلة «أميرة» - في المرحلة الاعدادية من سكان المنطقة - كثيراً، قائلة: «هي دي المرافق يا عم رمضان»، وبدأت تحكي معاناتها ليلاً مع الظلام، وصباحاً مع الكلام، والذئاب البشرية، فهي تواجه يومياً مشكلتين، الأولي في الصباح الباكر في أول رحلتها إلي المدرسة، حينما تسمع نباح الكلاب، والثاني الذئاب البشرية التي تجعلها تصرخ مستنجدة بأحدهم، الحظ فقط الذي يحدد نوعيته، ربما كان إنساناً أو ذئباً آخر جاء نتاج ليلة مليئة بالخطايا. فتؤكد «أميرة» أنها غالباً ما تتعرض للتحرش والاعتداء في الصباح الباكر من رجال سكاري يفترشون الأرض وهي في طريقها إلي المدرسة، لكن حظها «حلو» - علي حد قولها - فدائماً ما تجد من ينقذها، من سائقي الميكروباص المعروفين في المنطقة. أما «سارة» 18 عاماً ومن سكان المنطقة نفسها، فقد وفرت علي نفسها كل هذا العناء وتركت المدرسة قبل إنهاء المرحلة الابتدائية، رفضت «سارة» الحديث عن أسباب تركها المدرسة، قائلة وهي تشير إلي والدها: «اسألوه هو». «أشرف محمود» والد «سارة» وأب لأربعة أبناء غيرها، مات أحدهم منذ سبع سنوات، في حادث رفض الأب الحديث عنه، ومنذ ذلك الحين وهو جالس في المنزل يرافقه اثنان، المرض والخوف، علي باقي أبنائه، لذا فقرر حرمانهم من التعليم لإتقاء شر الحوادث والاعتداءات، خاصة بعد أن سكن العشوائيات. ويضيف «أشرف» قائلاً: «الله يهون» الفقر، المياه الملوثة، الباعوض، إلا ضياع أولادي والاعتداء عليهم.. ومن هنا يطالب أشرف بتقنين أوضاع العشوائيات ووضعها ضمن خطة النهضة التي يتشدق بها النظام الإخواني، وتوفير الأمن والأمان، مشيراً إلي أن الحاجة والفقر هي التي جعلته يترك بلده «سوهاج» ويسكن في هذا المكان غير الآمن، الذي لا يصلح إلا مسكناً للكلاب واللصوص. شمال الكوبري الدائري قبل نزلة المريوطية، شارع اسمه «الشيخ سيف» متفرع من شارع البحر في الكُنيسة بالجيزة، هذه المنطقة العشوائية لم تتذكرها حكومة الإخوان إلا عندما قررت عدم توصيل المرافق إليها، تضم هذه المنطقة العديد من المنازل التي أسعد الحظ بعض أهلها واستطاعوا تجهيزها كما يجب لكن يفتقد الكثيرون من أهلها هذا الشيء. «المرافق والخدمات العامة» عندما تكون معدومة تماماً فحدث ولا حرج، اعتداءات وحوادث راح ضحيتها أبناء هذه المنطقة بأعداد كبيرة، عبدالرحمن سيف، ويوسف محمد، ورنا عبدالله، وغيرهم كثيراً من الأطفال الذين قتلوا في حادث واحد متكرر علي الكوبري الدائري، أثناء عودتهم من المدرسة، وعبورهم كوبري الموت.. يطالب سكان شارع البحر بنفق مشاه يحمي الأطفال من الموت.. أما أم «أبوالليل» فتقول: «إن الموت ليس هو مشكلتها ولا مشكلة أولادها، فالموت سترة»، وإنما تري أن الحياة بدون مرافق وخدمات هب الموت بعينه، وتهدد بخروجها مع أهلها إن لم يتحرك «مرسي» وحكومته لرفع مستوي معيشة أهالي العشوائيات. الزاوية الحمراء، والقلعة، والشرابية، وغيرها كثيراً تقع تحت طائلة العشوائيات والبناء غير المرخص. الحديث عن سكانها ومعاناتهم واحد مع اختلاف مواقعها في مصر، ومن ينظر بعين موضوعية لهؤلاء المعذبين يري مقومات ثورة حقيقية قادمة عن قرب، إن لم يتم توفيق أوضاع العشوائيات بشيء من الحكمة.