مشكلات عديدة عاناها التعليم الفنى خلال عقود طويلة، تسببت بشكل مباشر وغير مباشر فى إفشال تلك المنظومة التعليمية، فعلى الرغم من الاهتمام العالمى بالتعليم الفنى لمساهمته فى نهضة الدول وتقدمها صناعياً وتكنولوجياً مثلما حدث فى ألمانياوالصين واليابان وغيرها، إلا أن منظومة التعليم الفنى فى مصر لم تع هذه الحقيقة وما زالت على حالها. جدير بالذكر أن مصر كان لها السبق بالاهتمام بالتعليم الفنى الصناعى منذ أقدم العصور، ففى عصر محمد على باشا، وتحديدًا عام 1837م تم إنشاء ديوان للمدارس وعهد بإدارته إلى بعض أعضاء البعثات العلمية التى أرسلها لأوروبا، وكان هذا التعليم أمل مصر فى نهضتها الصناعية، إلا أنه بمرور الأعوام تدهورت منظومة التعليم الفنى، حتى أصبح لدينا مدرسة بدون طلاب، وهو ما يحدث فى مركز التدريب المهنى للنقل، التابع للشركة القابضة للنقل البحرى والبرى، والذى كان تابعاً لوزارة قطاع الأعمال سابقاً، وتشرف عليه مصلحة الكفاية الإنتاجية، وشهادته معتمدة من وزارة التربية والتعليم الفنى، وتقع تلك المدرسة أو المركز بشارع الطرابيشى بمنطقة العباسية، وبها عدة تخصصات كصيانة السيارات «ميكانيكا وكهرباء» وإصلاح ودهان هياكل سيارات، وتضم عدة ورش منها 4 لصيانة المحركات – نقل الحركة – كهرباء السيارات – والبطاريات وورشتين هياكل «للسمكرة والدهان – والحدادة»، ويدرس بالمركز 25 طالباً فى الصف الثالث الثانوى، ولا تستقبل طلاباً منذ عامين، برغم صرف رواتب الموظفين والعاملين بالمركز. وقامت «الوفد» بالتواصل مع وزارة التعليم الفنى بشأن هذا المركز المهجور، حيث رد محمد مجاهد نائب وزير التعليم الفنى، قائلًا: «إن المدرسة والتى تبلغ مصروفاتها (950 جنيهاً)، ليست تحت إشراف وزارة التربية والتعليم الفنى، فالمدارس التابعة للوزارة لا تزيد مصروفاتها على 250 جنيهاً، أما هذا المركز فهو محطة تدريبية تابعة لمصلحة الكفاية الإنتاجية التابعة لوزارة التجارة والصناعة بالشراكة مع الشركة القابضة للنقل البرى والبحرى، ودور الوزارة مقصور على الاعتراف بشهادة التلمذة الصناعية التى تصدرها مصلحة الكفاية الإنتاجية منذ عام 1967 اى منذ 55 سنة، مشيراً إلى أن هذا الاعتراف لم يكن له شروط وقتها، ونحاول الآن أن نغير هذا الاعتراف ونجعل له شروطاً مقبولة، موضحاً أن وزارة التربية والتعليم لا تشارك فى تشغيل هذه المحطات، وليست مسؤولة عنها بأى حال من الأحوال، وأضاف: يمكنك الاتصال بوزارة التجارة والصناعة لمعرفة المسئول عن تشغيل هذه المحطات التدريبية». لذلك قمنا بالتوجه إلى مصلحة الكفاية الإنتاجية، إلا أنهم أكدوا أن المصلحة تشرف على هذه المحطة أو المركز من ناحية المناهج التعليمية وليس فى قبول الطلاب، فهذا يقع على عاتق وزارة النقل، فهى المسئولة عن إدارة تلك المنشأة. وطالب عدد من الخبراء بضرورة الاهتمام بهذا المركز وإعادة تشغيله، منوهين إلى ضرورة قيام وزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى ببحث الأسباب التى أدت إلى ذلك، سواء من حيث إعداد المعلمين أو الموظفين أو الكتب المدرسية أو المصروفات، وقيام وزارة النقل بالتغلب على المعوقات التى تحول دون تشغيلها مثل توفير فرص التدريب للطلاب فى وسائل النقل المختلفة سواء البحرية أو البرية وخاصة أنها الجهة الوحيدة المسؤولة عن الموافقة على ذلك، وتدخل رئاسة مجلس الوزراء للتغلب على أى عقبات تخرج عن نطاق وزارتى التربية والتعليم والنقل، وتقديم مؤسسات المجتمع المدنى الدعم الكافى لتلك المدرسة. مشكلات عديدة هذه المشكلة مجرد نموذج لما يعانيه التعليم الفنى فى مصر، فهناك العديد من المشكلات التى تعوق قيام هذا النوع من التعليم بدوره، نرصدها على ألسنة الدارسين والخبراء، حيث أكد محمد حسنين طالب بإحدى مدارس التعليم الفنى، أن أهم المشكلات التى تواجهه هى أنه وزملاءه لا يمكنهم التعامل مع الأدوات العلمية فى تخصصاتهم المختلفة، وذلك بسبب عدم قيام المعلمين بتنفيذ التجارب على أرض الواقع، بسبب تدهور المعامل، بالإضافة إلى وجود بعض المعلمين غير المتخصصين فى المواد التى يدرسونها، فهناك معلم يدرس أكثر من مادة، ولا يقوم بتطبيقها. وشاركه فى الرأى كريم محمد الذى أكد على أن الطلاب بعد تخرجهم يصدمون بسوق العمل، حيث أن المناهج التعليمية تختلف عن العمل، ولا توجد فرص تدريبية تؤهل الطلاب لسوق العمل. فيما أكد عاصم فتحى أحد أولياء الأمور، أن هناك مشاكل عديدة لاحظها أثناء دراسة ابنه بالتعليم الفنى، وهى عدم تطوير المناهج الدراسية، كما أن المعلم يعتمد على التلقين فقط دون التجريب، بالإضافة إلى عدم ربط المناهج التعليمية بسوق العمل، فضلاً عن أن التعليم الفنى أصبح هو البوابة الأصعب للالتحاق بالكليات الحكومية خاصة كليات القمة. ووافقته فى الرأى، سناء المعز، ولية أمر، قائلة: إن معظم المدرسين غير مؤهلين تعليميًا وتربويًا وفنيًا بالشكل الصحيح، كما أن المدارس لا تواكب التطورات التكنولوجية الحديثة، فضلًا عن ضعف الإمكانيات بمعامل المدارس الفنية، والنظرة الدونية للتعليم الفنى ركيزة مهمة «أهمية التعليم الفنى وأهم المشكلات التى تواجهه».. شرحته لنا منى أبوغالى، مؤسس ائتلاف تحيا مصر بالتعليم، قائلة: «إن التعليم الفنى يعتبر أهم ركيزة فى جميع دول العالم، لأنها أساس اقتصاد الدول المتقدمة، إلا أنه مرتبط فى مصر بالإهمال والفشل، بل ويتم تمييز طلابه ووصفهم بأسوأ طلاب وكأنهم لا يصلحون للعيش فى المجتمع، برغم أن التعليم الفنى يساعد فى حل أزمة التعليم بوجه عام. وتابعت «أبوغالى» أن هذه الأمور أدت إلى صعوبة التحاق طلاب التعليم الفنى بالكليات العليا عكس طلاب الثانوية العامة، إذ إن طالب التعليم الفنى اذا لم يحصل على 90٪ فأعلى لا يستطيع الالتحاق بالجامعات، أما طالب الثانوى عام فتكون له فرص متعددة للالتحاق، كما أن سياسات القبول المفتوحة بأغلب المدارس الفنية، أدت إلى عدم تحديد أعداد معينة للالتحاق بالتعليم الفنى، بالإضافة لعدم جودة الدارسين، على عكس الثانوية العامة والتى تفرض حد أدنى للقبول، حتى أصبحت المدارس الفنية هى الملجأ الوحيد للطلاب الأقل مجموعًا فى المرحلة الإعدادية. وعن أسباب تدهور التعليم الفنى، أكدت منى أبوغالى أن هناك تأخر فى تطوير المناهج التعليمية، وعدم مواكبتها لسوق العمل، فلا توجد آلية تربط التخصصات والمناهج فى التعليم الفنى والتوزيع النوعى للصناعات، واحتياجات سوق العمل، وفى النهاية يكون لدينا طلاب حاصلون على شهادة تعليم فنى ولكن دون أدنى خبرة، ما أدى إلى فقدان الطالب الثقة فى قيمة التعليم وخوفه على مستقبله، بعد رؤية الطابور الطويل من البطالة للخريجين السابقين. ونوهت إلى ضرورة تفعيل دور الدولة، حتى يتسنى لأى ولى أمر عدم التردد فى إلحاق أبنائهم بالتعليم الفنى، وذلك من خلال تغيير سياسات قبول الجامعات الحكومية للدارسين، حتى يتسنى لهم الحصول على فرص عمل، أو توفير مصانع تطلب تخصصاتهم المختلفة، بالإضافة إلى توفير المعلمين المتخصصين والمدربين وأضافت أن هناك عدد كبير من المدارس الفنية يصرف لها ميزانية من الدولة تحت مسمى تدريب الطلاب او شراء أجهزة وماكينات، وكل هذا مجرد حبر على ورق وفساد كبير. إنقاذ التعليم الفنى «برغم من مشكلاته المتعددة فإن هناك بارقة أمل لإنقاذ التعليم الفنى».. هكذا بدأ عاصم حجازى أستاذ علم النفس التربوى بكلية الدراسات العليا للتربية بجامعة القاهرة حديثه قائلًا: «شهد التعليم الفنى تطوراً كبيراً فى الفترة الأخيرة، شمل كافة أركان المنظومة، فعلى صعيد المناهج، تم تطوير معظم البرامج، واستحداث تخصصات جديدة لمواكبة سوق العمل, واستحداث منهج الجدارات، وهو منهج يركز على الأركان الثلاثة اللازمة لتطوير أى بيئة عمل، والتى تشمل المهارات والمعارف والاتجاهات. وتابع «حجازى»: تم تحقيق الربط بين التعليم وسوق العمل من خلال عقد شراكات مع سوق العمل وتدريب الطلاب فى بيئة العمل الفعلية، وتحديد مخرجات التعلم المطلوبة، وليس هناك شك فى أن هذه الإجراءات قد أخذت بيد التعليم الفنى إلى مكانة متقدمة عما كانت عليه فى السابق، وأسهمت إلى حد كبير فى تغيير نظرة المجتمع له. وعن العقبات التى واجهت منهج الجدارات أشار استاذ علم النفس التربوى، إلى وجود بعض المقترحات التى يمكن من خلالها التغلب على هذه العقبات ومنها: وضع معايير محددة لاختيار الشركات التى تتعاقد معها وزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى، بحيث تكون وسائل الإنتاج فيها متطورة ومواكبة لسوق العمل الدولى وأن تستمر فى تطوير الآلات وأنظمة العمل بشكل دورى، وذلك حتى يتسنى للخريج الذى لم يجد فرصة علم فى الشركات المصرية أن يجد لنفسه فرصة عمل فى أى دولة بسهولة، مع إعطاء مساحة أكبر للشركات فى إعداد المناهج المرتبطة بتخصصاتها، مع مراعاة شرط مواكبة هذه الشركة بمعداتها ونظام العمل فيها للمعايير الدولية، ومنح الشركات التى تعقد شراكة مع وزارة التربية والتعليم امتيازات خاصة، وفرض شروط ومعايير ملزمة لها تضمن حصول الطلاب على تعليم وتدريب جيد والتوسع فى عقد الشراكات مع الشركات متعددة الجنسيات والشركات الأجنبية مع منحها تسهيلات للاستثمار داخل مصر. وطالب بضرورة تشجيع ثقافة العمل الحر وتضمين مقررات خاصة عن ريادة الأعمال ضمن مناهج التعليم الفنى، وتدريب الطلاب على كيفية إنشاء مشروع خاص وإدارته، وإنشاء وحدة داخل وزارة التربية والتعليم لمتابعة خريجى التعليم الفنى وإنشاء قاعدة بيانات له، على أن تكون هذه الوحدة حلقة وصل بين الطلاب وسوق العمل، بالإضافة إلى منح قروض حسنة وطويلة الأجل للخريجين لبدء مشروعاتهم الخاصة، ويمكن البدء فى هذا الإجراء بتوفير القروض للأوائل مبدئياً تمهيداً لتعميم التجربة بعد ذلك، بالإضافة إلى ربط سياسة القبول باحتياجات سوق العمل، بحيث لا تقبل المدارس أعداد أكثر مما يتطلبه سوق العمل خاصة فى المجالات التى لا يتاح فيها العمل الحر كالطاقة النووية وغيرها. أساس التقدم ويرى الخبير التربوى تامر شوقى أن التعليم الفنى هو أساس التقدم الاقتصادى فى أى دولة تطمح إلى تحقيق التنمية الشاملة، واللحاق بركب التطور والتقدم، وخير مثال على ذلك ألمانيا التى تعد من أكبر القوى الاقتصادية فى العالم، والتى يمثل خريجى التعليم الفنى بها نحو 70% من حجم العمالة، وكذلك الحال فى الصين، وسنغافورة وكوريا، بينما يمثل خريجى التعليم الفنى فى مصر نحو 40% فقط، لذا حرصت مصر مؤخراً على الاهتمام بالتعليم الفنى ودعمه، كما سعت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى إلى الارتقاء بمستوى التعليم الفنى وتطويره وربطه بسوق العمل (من خلال إنشاء مدارس التكنولوجيا التطبيقية الجديدة، واستحداث تخصصات جديدة مطلوبة فى سوق العمل، وتطوير المدارس الفنية التقليدية). وأوضح أن التعليم الفنى يتمتع بالعديد من المزايا منها: قلة التكاليف التى يتحملها الطالب مقارنة بطلاب الثانوية العامة فى الدروس الخصوصية، والكتب الخارجية وغيرها، وصعوبة المواد الدراسية فى الثانوية العامة، فضلاً عن ارتفاع مستوى الامتحانات بها، وانخفاض مجاميع الطلاب، وعدم توافر فرص عمل لعشرات الآلاف سنويا من خريجى الكليات النظرية بعد الثانوية العامة، وتزايد معدلات البطالة بينهم، حتى لو كانوا من خريجى كليات القمة، مثل الإعلام والاقتصاد والعلوم السياسية وغيرها. وتابع «شوقى» أن تنوع التخصصات فى التعليم الفنى يمنحه أفضلية عن التعليم الثانوى العام، والتى قد تتناسب مع ميول وقدرات الطلاب، فهى تعتمد على استخدام المهارات العملية، بينما تضيق التخصصات على طلاب الثانوية العامة فهى إما علمى أوأدبى، وتغلب عليه الطبيعة النظرية، فضلًا عن ظهور مدارس ذات تخصصات جديدة تتناسب مع التطورات الحياتية (مثل المفاعلات النووية، والاتصالات والشبكات، وإصلاح هياكل السيارات، وصيانة السيارات المركبات الثقيلة، والذهب، والطاقة الشمسية وغيرها). كما توجد بعض الشركات الصناعية الكبرى التى عملت على إنشاء مدارس تكنولوجية تطبيقية متخصصة، ما يوفر فرص تدريب عملى للطلاب، فضلاً عن العمل والتوظيف بها بعد التخرج، كما أن بعض هذه المدارس تقبل مجموع أقل من الثانوية العامة، وتمنح بعض المدارس الفنية مزايا مادية للطلاب الملتحقين بها، بالإضافة إلى تعدد الطرق للالتحاق بالتعليم العالى، من خلال اختبارات المعادلة المؤهلة لكليات الهندسة أو الزراعة أو التجارة، أو من خلال التحاق المتفوقين منهم بالجامعات الحكومية عن طريق التنسيق الخاص بهم، أو الالتحاق بالمعاهد المتوسطة، كما لديهم فرص تزيد على 80% للالتحاق بالجامعات التكنولوجية الجديدة.