كانت زميلة قديمة، حباها الله بجمال الوجه والخلق، فحفظت جمالها بحجاب وقور مهندم، ومنذ عقدين قررت تغيير مسار عملها، واختارت الوظيفة، أيضاً في مجال قريب من الإعلام، رأت أن الوظيفة ستجعلها أكثر توفيقاً بين عملها وبيتها بعد الزواج وقد رزقت بأربعة أطفال، كانت نشطة.. منطلقة كالفراشة في عملها الجديد ورسمت لمستقبلها طموحات هائلة، هكذا تركتها قبل أن أغادر مصر وتفرقنا الأعوام وتباعد المسافات بين أحاديثنا حول أخبار الحياة، وبالأمس القريب فاجأني صوتها عبر الهاتف بعد غيبة، بقدر لهفتي لسماع أخبارها وما فعلته بها الدنيا والوظيفة، بقدر صدمتي وحزني لما قالته، كان طموحها قد تجمد بفعل فاعل، فاعل حاصرها بنظراتها منذ أول يوم وطأت فيه قدماها مكان عملها، ولأنها زوجة محترمة تتقي الله بالغيب، تجاهلت نظراته، ثم تجاهلت ايماءاته وإشاراته لها، ثم ثارت في وجهه عندما تطور الأمر إلي محاولة التحرش باللمس، هددته بفضح أمره لدي المدير العام، ولأنه كان رئيسها المباشر ويبدو أمام الجميع محترماً، تراجع عن تحرشة المباشر، وحاصرها بتحرش من نوع آخر، الاضطهاد.. اضطهدها بالضغط عليها في العمل، في كتابة تقارير سلبية عن أدائها، في تعطيل مستحقاتها من حوافز مالية ودرجة وظيفية، وصبرت واحتسبت. كانت تخشي لو فضحت أمره أن يطولها من شرر الفضيحة شيئاً، أن تسوء سمعتها بين الزملاء الذين يحترمونها، أو تصل الأخبار إلي زوجها، فيأمرها بترك العمل، وهي التي تحتاج لراتبها للإسهام في متطلبات الحياة التي باتت قاسية ولا ترحم، فآثرت الصمت، ومحاربة تحرشاته لها في صبر وإيمان، حتي حانت لها فرصة الانتقال إلي فرع آخر من الإدارة، تلقفت الفرصة بفرحة وأمل واعتقدت أنها نجت أخيراً من حصار رجل لا يتقي الله، لكنه كان لها أيضاً بالمرصاد، فقد نقل لرئيسها الجديد في العمل صورة مختلفة ومغلوطة، فإذا بهذا الجديد يواصل ما بدأه معها الأول وفشل فيه، ووجدت نفسها تسقط في نفس الدائرة المظلمة من جديد، وزاد من ألمها مرض زوجها العضال، فشعرت أن عزيمتها قد تنهار، وأن عليها النجاة بنفسها بالاستقالة لتخلص من هذا العذاب، لتحمي نفسها وسمعتها من حضرات المتحرشين سراً في غرف العمل وخلف المكاتب، هؤلاء المتوشحون زوراً بالاحترام. في الحقيقة لم أجد حلاً مرضياً لمشكلة زميلتي القديمة، التي طلبت مني نشر قضيتها، ورأيت من الظلم أن تستقيل وتفقد عملها ودخلها، لأنها لم تستجب لرغبة رجل أو آخر غير سوي.. رجل استخفي من الناس ونسي الله، وكان الحل في تصوري هو فضح هذا الرجل أو ذاك، وكشفهما أمام الجميع، وسيشفع لها خلقها وسلوكها الفاضل بين زملاءها للوقوف بجانبها. بالطبع ليست زميلتي القديمة حالة فريدة تعاني من تحرش زميل أو رئيس لها في العمل، تحرش سبب لها ضرراً نفسياً.. مادياً ووظيفياً بشعاً بل وتسبب في قتل طموحها، وتقييد أحلامها فمثلها عشرات الآلاف من العاملات، منهن من يحارب صمتاً لأجل لقمة العيش، ومنهن من يهرب، وأخريات يسقطن في القبول مضطرات، ظاهرة التحرش في مصر باتت فوق التصور وتتفاقم في كل مكان وسط صمت أمني وحكومي رهيب، وهو ما أكدته الدراسة الأخيرة المفجعة للأمم المتحدة، التي قالت إن نسبة 99.3٪ من نساء وفتيات مصر تعرضن للتحرش بصورة أو بأخري، لفظي، بالنظرة، بالإشارة أو الإيحاء، وأن نسبة 60٪ تعرضن بالفعل لمحاولات تحرش باللمس. يحدث هذا في مصر الحبيبة، التي كنا نتغني بأخلاق أبنائها وبشهامتهم ورجولتهم، ونباهي بهم كل رجال العالم، نباهي بأن الشاب المصري مستعد لدفع حياته ثمناً حتي يحمي بنت بلده من أي سوء، يحدث هذا الآن، رغم أن بنات مصر القديمة في الستينيات والسبعينيات، كن يخرجن بملابس قصيرة وبمظهر متحرر، لكن لم تسمع جداتنا ولا أمهاتنا عن شىء اسمه «تحرش»، أما الآن فالتحرش يحاصر الفتيات والنساء في الشوارع، أماكن التسوق، داخل مكاتب العمل، ولا فارق بين سافرة.. محجبة أو حتي منتقبة، الكل ضحايا، وإن كنت ألوم بناتنا بسبب فجاجة البعض في مظهرهن، وأطالبهن بمزيد من الاحتشام، أطالب الرجال وأبناءنا بأن يتقوا الله، بأن يعودوا إلي دينهم وأخلاقهم المصرية، فما يفعلونه اليوم سيفعل بمحارمهم غداً، كما قال الله سبحانه في وصايا لقمان لابنه: «يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ». قد يكون مطلب إضافة التحرش كجريمة إلي قانون العقوبات وتغليظ العقوبات حولها أمراً ضرورياً الآن، وعودة شرطة الآداب في الشارع الآن أمراً مقبولاً لمواجهة تفاقم الظاهرة وأؤكد «شرطة آداب» وليس جماعة الأمر بالمعروف، ولكن التحرش في أماكن العمل وغيرها، لن تردعه شرطة آداب، الرادع هو العودة لأخلاقنا، لديننا، أن نعيد إلي بيوتنا ما فقدناه وسط انشغالات الحياة من تربية أبناءنا ليفرقوا بين الحلال والحرام، بأن يتقوا الله في أعراض الغير ليحمي الله أعراضهم.