قال الدكتور محمد السيد أبو هاشم إمام وخطيب مسجد السيدة زينب، إن حبَ الوطن غريزةٌ فطريةٌ في جميع الكائنات الحيةِ من إنسانٍ وطيرٍ وحيوان؛ بل إن بعض المخلوقات إذا تم نقلُها عن موطنها الأصلي فإنها تموت، يقول الأصمعي: " ثلاث خصال في ثلاثة أصناف: الإبل تحن إلى أوطانها، وإن كان عهدها بها بعيداً، والطير يحن إلى وكره، وإن كان موضعه مجدّباً، والإنسان يحن إلى وطنه، وإن كان غيره أكثر منه نفعاً "، ويُستدلُّ على نُبلِ الرجلِ وطيبِ معدِنه بتحنِّنه إلى وطنه، يقول الأصمعي: إذا أردت أن تعرف وفاءَ الرجلِ فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه". اقرأ ايضا .. الوطن.. عقيدة وتابع أن الإنسان بلا وطن هو كيان بلا روح، والإنسان بلا وطن جسد بلا إحساس ، فالفاقد للوطن فاقد للأمن والاستقرار، والفاقد للأمن والاستقرار فاقد للاطمئنان، والوطن بلا أمن واستقرار غابة يعيش فيها القوي ويهان فيها الضعيف ، ونحمد الله على الأمن الذي نعيشه في بلادنا أدام الله أمنها واستقرارها. وأشار إلى أنه في حالة إذا تصفحنا سيرةَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجدنا الحنينَ الواضح والحبَّ القوي إلى وطنه ومنشأه، فلما خرج من مكةَ قال: والله إنك لأحبُ بلاد الله إلى الله وأحبُ بلاد الله إلي، ولولا أن أهلَك أخرجوني منك ما خرجت، ولما دخل المدينةَ وطنَه الجديد دعا الله، وقال: "اللهم حَبّب إلينا المدينةَ كحبنا لمكة أو أشدّ، وكان إذا رجع من سفر وقف على طريقها وحرك راحلتَه شوقا إليها، يقول ابن حجر: " وفي الحديث دلالةٌ على فضلِ المدينة، وعلى مشروعيةِ حبِّ الوطن والحنينِ إليه. وتابع أن الإمامُ الذهبيُ وعد طائفةً من محبوبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: " وكان رسول الله يحب عائشةَ، ويحب أباها، ويحب سبطيه الحسنَ والحسين، ويحب الحلواءَ والعسل، وكان يحب وطنَه"، وإذا تتبعنا أقوال العلماء سنجد تأكيدهم على حب أوطانهم وحنينهم إليها، وبيان أنها فطرة إنسانية مركبة في الذات البشرية يقول الإمام حامد الغزاليّ: "والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص"، ويقول ابن الجوزي: " والأوطان أبداً محبوبة"، ويقول ابن بسّام: " غير أن الوطن محبوب والمنشأ مألوف، واللبيب يحنّ إلى وطنه حنين النجيب إلى عطنه، والكريم لا يجفو أرضاً بها قوابله، ولا ينسى أرضاً بها مراضعه". وواصل حديث، أنه الله قد ساوى بين الخروج من الأوطان وبين القتل، لما في الخروج من الوطن من مشقة تعدل القتل ، قال تعالى : " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم "، ونعلم أن حب الوطن ليس شعاراتٍ تردد أو عبارت تقال فحسب، وإنما تضحيةٌ وبذل وعطاء وكرم وصبر وإيثار وفداء ووعي ثم السعي، فالوطن شجرة لا تنمو إلا في تربة التضحيات، وتسقى بالدم والعرق والجهد، فتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. وشدد على أن حبُّ الوطن يعني التراحمَ والتكافلَ والمودةَ ومساعدةَ المحتاجين، وعدمَ استغلالِ حاجة الناس بالاحتكارِ أو الغشِّ أو الخداع، يقول سيدُ النبيين صلى الله عليه وآله وسلم : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد... " ، ويقول عليه الصلاة والسلام "من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخر ، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه". وذكر أن حبُّ الوطن يعني حمايتَه وحراستَه والشهادةَ في سبيله، قال عليه الصلاة والسلام : " عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله " ، وقال عليه الصلاة والسلام : " طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ الله، أشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ ". ونوه إلى أن حبُّ الوطن يعني إتقانَ العمل وجودةَ الإنتاج فإن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، والسعيَ في رفعتِه وتقدمِّه وازدهارِه مع الدعاءِ له بالحفظ والتقدم، ونقتدي في هذا بالسيدة زينب رضي الله عنها التي كانت تدعو لهذا البلد الطيب أهلُه، فبعد حادثةِ كربلاء أُجبرت على الخروجِ من المدينة، فقال لها ابنُ عباس: " يا بنتَ بنتِ رسول الله، اذهبي إلى مصرَ فإن فيها قوماً يحبونكم لله ولقرابتِكم من رسول الله، وإن لم تجدي فيها أرضاً تسكنيها فستجدين قلوبَ أهلِها وطنا " فاختارت مصرَ لما علمت من حب أهلِها لآل البيت، لما رجعت من الشام ليثربَ من بعدِ فاجعةِ الإمام الحسين طلبوا إليك الظعنَ للبلدِ الذي تستوطنيه خارجَ الحرمين فاخترت مصرَ فرحبت بك وانثنت تهتز من شرف على الكونين، ولما جاءت ورأت الخيرَ من أهل مصر دعت لهم، وقالت: " يا أهلَ مصر، أكرمتمونا أكرمكم الله، وآويتمونا آواكم الله، ونصرتمونا نصركم الله، وجعل الله لكم من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا". وشدد على أننا ما زلنا نعيش بركةَ هذا الدعاء ونورَه وحفظَه لهذا البلد الذي احتضن آل البيت، ودفن فيه عددٌ منهم، روى البيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري، قال: مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجنازةٍ عند قبر، فقال: قبر من هذا ؟ قالوا: قبر فلان الحبشي يا رسول الله، فقال: لا إله إلا الله، سِيق من أرضه وسمائه إلى تربته التي خُلق منها ؟ " يقول ابن حجر الهيتمي: " استدل العلماء بهذا الحديث على أن التربةَ التي يدفن فيها المرء هي نفس التربة التي خُلق منها، وإن دلّ فإنما يدلّ على فضلِ هذا البلد وعظيمِ ترابه وأرضه فقد دفن جمع من آل البيت الكرام، وقد نزل فيها القرآن المبين :" ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين". الجامع الكبير .. حُبُّ الْوَطَنِ فِى دِينِ الْإِسْلَامِ