جلال الديب: سد الدفرسوار كان الأصعب فى عملية التطهير.. وقمنا فى خمسة أشهر بإزالة 17 ألف متر مكعب من الكتل الخرسانية 175 مهندسًا وفنيًا وغطاسًا نجحوا بكراكة متهالكة وأوناش بدائية فى تدمير السد بالكامل لم يكن من السهل إعادة افتتاح قناة السويس أمام حركة الملاحة الدولية بعد إغلاقها لمدة سبع سنوات عقب انتصارات أكتوبر... عشرات العقبات كانت داخل المجرى الملاحى ما بين عوائق ضخمة وأخرى صغيرة.. وحدات بحرية غارقة وأخرى تم تدميرها ومخلفات حرب وكتل خرسانية ضخمة كان على إدارة قناة السويس إزالتها فى فترة لا تتجاوز 18 شهرا لإعادة الملاحة وتسيير حركة السفن أمام العالم. كان الأصعب فى هذه العملية القتالية التى بدأت فى يناير 1974 وحتى يونيو 1975 هى مهمة إزالة «سد الدفرسوار» الخرسانى الذى أقامته قوات الاحتلال الإسرائيلى فى الكيلو 90/91 جنوب قناة السويس، والذى شيدته أثناء حرب أكتوبر فى عرض المجرى ليسهل من عملية تمرير المركبات والدبابات العسكرية من سيناء إلى غرب القناة تحسبا لاستخدامه فى أى وقت تحاول فيه القوات المصرية شن هجوم على سيناء. طريق خرسانى مسلح أقامته قوات العدو فى عرض القناة استخدمت فيه مئات الأطنان من الكتل الخرسانية والرمال والأحجار والدبش والصالات الحديدية. وكان على إدارة القناة بمعداتها ووحداتها البحرية التى دمرت فى الحرب أن تزيل هذا السد فى منطقة تعد الأضيق والأكثر خطورة على طول القناة لتفسح الطريق وتستكمل مراحل التطهير. تفاصيل الملحمة القتالية يرويها ل«الوفد» المهندس جلال الديب عضو مجلس إدارة هيئة قناة السويس مدير إدارة التحركات مستشار رئيس قناة السويس الأسبق، والذى كان يعمل حينذاك مهندساً أول فى العملية والمشرف على الكراكة خوفو «الجندى المجهول» فى عملية إزالة سد الدفرسوار. يقول الديب فى الذكرى ال47 لافتتاح قناة السويس، إن عملية التطهير كانت شاقة وصعبة بدأت فى أول يناير 1974 أى بعد نحو شهرين من انتصارات أكتوبر، وكان أمامنا تحدى الوقت بعدما حدد الرئيس أنور السادات تاريخ 5 يونيو 1975 لإعادة افتتاح القناة، وكان اختيار هذا التاريح حنكة من القيادة السياسية ليمحو آثار هذا التاريخ من أذهان المصريين. وقد كان الموعد المحدد حيث قال السادات فى خطاب تاريخى إننى أعلن لابن هذه الأرض الطيبة الذى شق القناة بعرقه ودموعه، همزة للوصل بين القارات والحضارات، وعبرها بأرواح شهدائه الأبرار لينشر السلام والأمان على ضفافها، يعيد فتحها اليوم للملاحة من جديد، رافداً للسلام وشريانا للازدهار والتعاون بين البشر. وتابع السادات فى خطاب بمجلس الشعب فى مارس 1975 «.. إننى لا أريد لشعوب العالم التى تهتم بالقناة معبراً لتجارتها أن تتصور بأن شعب مصر يريد عقابها لذنب لم تقترفه، إنهم جميعاً أيدونا ونحن نريد قناتنا كما يريدونها طريقاً لازدهارنا، سوف نفتح قناة السويس ونحن قادرون على حمايتها نفس قدرتنا على حماية مدن القناة التى قمنا ونقوم بتعميرها ، فلقد مضى ذلك العهد الذى كانت فيه المسافات حائلاً دون العدوان». وأضاف الديب: «أكثر من 10 عوائق ضخمة كانت بعرض القناة بالإضافة لعشرات العوائق المتوسطة والصغيرة التى واجهت فرق العمل لتطهير المجرى على مدار 17 شهرا، حيث كانت هناك نحو 120 وحدة عائمة متوسطة الحجم تم انتشالها، وهى عبارة عن قاطرات متوسطة الحجم ولنشات الكبيرة نسبيا، بالإضافة ل500 عائق صغير كاللنشات الصغيرة والشمندورات الغارقة تم انتشالها حتى يتم فتح القناة واستعادة الملاحة فى وقت قياسي». سد الدفرسوار.. المهمة الأصعب كشف الديب عن أن «إزالة سد الدفرسوار» كانت المهمة الأصعب، وشارك فيها نحو 175 من رجال قناة السويس ما بين مهندسين وفنيين وعمال وغطاسين، وتابع: «لم تكن هينة وكانت من بين مهام كبيرة أسندت لرجال قناة السويس على طول المجرى الملاحى، وكنا فى سباق مع الزمن وتحد كبير لإزالة سد منيع مكدس بأطنان من الكتل الخرسانية والحديد يصل عمقها لعمق القناة وحتى فوق سطح المياه، وذلك بمعدات بدائية وتكاليف محدودة ولكنها إرادة العاملين وروحهم القتالية التى سجلت بطولات مخلدة على الأجيال الجديدة أن تدركها». ويضيف: «منطقة الدفرسوار هى المنطقة الأكثر خطورة على طول القناة نظرا لطبيعة التربة الصخرية فيها وسرعة التيار فى هذا المكان التى تسجل الأعلى على طول مجرى القناة، حيث تغير اتجاهها كل 6 ساعات. وهذه المنطقة تحديدا شهدت وفاة 10 آلاف عامل أثناء حفر قناة السويس فى القرن التاسع عشر، أثناء عملية التقاء البحرين الأحمر والمتوسط فى هذه المنطقة التى كانت تعد همزة الوصل بين أعمال الحفر شمالا وجنوبا». ويتابع الديب: «كانت منطقة الدفرسوار أضيق منطقة فى قناة السويس يتراوح عرض القناة فيها ما بين 250 إلى 300 متر، وكانت إسرائيل شيدت الجسر الخرسانى من مكونات حوالى 8 آلاف متر مكعب من الأتربة والأحجار فوق منسوب المياه، وحوالى 12 ألف كتلة خرسانية زنة الواحدة حوالى 4 أطنان وحوالى 3504 كتل حجر طبيعى تصل زن الواحدة حوالى 5 أطنان، وحوالى 19 ألف متر مكعب من الرمال والأحجار والدبش، ونحو 37 من الصالات الحديدية المحملة بالأحجار، كما استخدمت كل معدات هيئة قناة السويس فى التمساح وورش هيئة قناه السويس، وبدأت إسرائيل فى تمهيد الطريق الخرسانى فوق قناه السويس، وكان هذا السد الخرسانى فوق القناة من أصعب عمليات التطهير سنة 1974، وتم تصوير هذا الجسر صور وفيديو، وكان لى الشرف أن أكون من عمال التطهير فى القناه فى تلك الفترة. كنا نصارع الوقت، وكان مطروح أمامنا تاريخين لافتتاح القناة أحدهما 6 أكتوبر 1975 و5 يونيو 1975، وكان الرئيس أنور السادات مصمما على تحديد موعد الافتتاح فى يونيو ليمحو من الذاكرة تاريخ النكسة، وكان هذا هو الموعد المحدد، والذى تم بالفعل افتتاح القناة وإعادة تشغيل حركة الملاحة الدولية فيه». ويسرد الديب ذكرياته عن المهمة التى أسندت لفريق العمل، والتى كانت تدار عبر لجان فنية تم تشكيلها خصيصا لهذا الأمر «كانت الكراكة «خوفو» محتجزة فى منطقة البحيرات مع الأسطول الأصفر وتم تدمير غرفة القيادة الخاصة بها بسبب ضربات الطيران الإسرائيلى لها أثناء الحرب، وكان علينا مع بدء عملية التطهير أن نعمل على تصليح الكراكة وإعادتها للعمل حتى ولو بطريقة بدائية لأنها وسيلة الحفر المتاحة لدينا فى هذا الوقت ونجح الدكتور أسامة بدر الصباح والمهندس أحمد الكيلانى والفريق المعاون لهما حينذاك بإعادة إصلاح جزئى للكراكة حتى عادت للعمل». ويضيف: «الأسطول الأصفر كان عبارة عن 14 مركبا محجوزة فى البحيرات المرة على مدار 8 سنوات حيث اندلعت الحرب فى يونيو 1967 ولم تتمكن هذه السفن من استكمال رحلتها مما اضطرها للبقاء فى منطقة البحيرات المرة.. وملاك هذه السفن قاموا بعمل تحالف وأطلقوا على أنفسهم الأسطول الصفراء بسبب رمال سيناء التى كانت تحيطهم من كل مكان». وتابع: «هذه السفن عبرت القناة مقطورة فى أبريل 1974 عدا سفينة واحدة وصلت بعد 8 سنين لميناء هامبورج بكامل محركاتها، وكان لها استقبال جماهيرى حاشد»، وأشار أن طواقم السفن كانت تتغير من فترة لأخرى أثناء الاحتجاز بواسطة البوليس الدولى الذى كان ينقل المؤن والأفراد عبر الطائرات الهيلكوبتر». ويتابع «كان التحدى الآخر فى التعامل مع الصالات الحديد الغارقة فى قاع القناة والمحملة بالكتل الخرسانية العنيدة التى تزيد فى وزنها على قدرة أوناش قناة السويس على رفعها، حيث كانت قوات العدو قد أسقطت نحو 37 صالا حديديا بزنة 150 طنا بواسطة الطيران الهيلوكوبتر الإسرائيلى لتغرق بالكامل فى مكان الثغرة من جهة الشرق ويتمكنوا من إقامة الجسر، كان وزن الصال الواحد يصل لنحو 150 طنا، وكان وقتها أقوى ونش عائم تمتلكه قناة السويس الونش «شامخ» وقدرته 80 طنا، كانت مشكلة وهو ما جعلنا نتخذ تفكيرا بوضع حفار الكراكة داخل الصال ونسحب منه ما يمكن سحبه، وقمنا بعمل فتحة داخل الصال وأفرغنا ما به حتى بات وزنه 70 طنا وتم رفعه بواسطة الونش العائم». ويضيف: «كان المهندس الراحل سيد العسال رئيس فريق الإنقاذ والذى شارك وفريق العمل فى عملية إخراج الصالات، وكانت من أصعب الأعمال، وكانت الخطورة تكمن فى قيام الغطاسين بالغطس أسفل المياه لمتابعة حجم الرمال والأحجار التى أزيلت من داخل الصال حتى يتم فتحه بحفار الكراكة ورفعه بشكل جزئى، وهى خطورة عالية على الغطاسين والعاملين بالكراكة ولكننا كنا نقاتل بروح الفريق». ويتابع «خلال هذه الفترة تلقينا عروضا من شركات أجنبية متخصصة لإزالة السد مقابل 750 ألف دولار لكننا رفضنا وتمكنا من إزالة السد بتكلفة لم تتجاوز 238 ألف جنيه مصرى». ويتذكر الديب تلك اللحظات التاريخية قائلاً «كان المهندس مشهور أحمد مشهور رئيس هيئة قناة السويس وقتها حريصا على حياة كل عامل فى القناة، وكان دائما ما يردد «مش عايزين خسائر فى الأرواح .. حافظوا على نفسكم»، وفى يوم حدث عطل فى الرمان بلى الخاص بعكاز الكراكة خوفو وحدث له تلف ولم يكن هناك قطع غيار للكراكة غير فى المخازن بالإسكندرية، وهو ما دفعنا للعمل لإصلاح العطل وكانت عملية قتالية جديدة قمنا فيها بأعمال فنية شديدة الخطورة وتم الاستعاضة بالرمان بلى بجلبة نحاس لإعادة تشغيل الكراكة فى 12 ساعة. وكنا أنجزنا 5 أمتار تقدم والكراكة عادت للعمل بصورة طبيعية». ويستكمل: «تم رفع أكثر من 500 بلوك خرسانى، وكان الحافز المصروف لكل بلوك خمسة جنيهات فقط، و كانت البلوكات موضوعة من الضفة الغربية وحتى الضفة الشرقية». وعن مكونات سد الدفرسوار يقول الديب كان من 6500 متر مكعب من الأحجار الكبيرة، و17100 متر مكعب من الكتل الخرسانية ونحو 120 ألف متر مكعب من الرمال والدبش، بالإضافة إلى 37 صالا حديديا محملا بالحجارة، بالإضافة ل686 ألف لغم من ضفتى القناة و41500 لغم وصاروخ وقذيقة وقنبلة وعبوات ناسفة، و62 قنبلة طائرات و175 طن ذخيرة و576 صندوق ذخيرة من قاع القناة. وأضاف: «كم الحجارة والصالات التى تم رفعها صنعنا بها هرما على ضفة القناة غربا وأطلقنا عليه هرم الدفرسوار ليكون شاهدا ومخلدا لعملية من أصعب عمليات التطهير، ودليلا واضحا على إصرار رجال قناة السويس على تحطيم المستحيل بإزالة السد، وكنا قد بدأنا العمل فى إزالة السد فى يونيو 1974 وتم الانتهاء فى نوفمبر من نفس العام، أى استغرقنا خمسة أشهر تقريبا، وهو رقم قياسى على حجم الإنجاز الذى تم فى هذا الوقت». ويشير «فى ذلك الوقت لم يكن لدينا سوى الكراكة كاسر التى تعمل مع التربة الصخرية، ولكننا الآن فى قناة السويس نمتلك ثلاثاً من أكبر كراكات العمل صنعت خصيصا للتعامل مع هذه التربة، وهى الكراكة "مشهور" والكراكة "مهاب مميش" والكراكة "حسين طنطاوى" والتى تتعامل مع التربة الصخرية بسلاسة». ويختتم «الديب» حواره مع «الوفد» بقوله: «على مدار تاريخ قناة السويس منذ افتتاحها مرورا بإغلاقها وأعمال التطهير وإعادة الافتتاح حتى يومنا هذا سجل رجال قناة السويس على مختلف الأزمنة ومع تغيير الأجيال بطولات قتالية».