لم يتوقع كثير من المصريين أن تنجب ثورة 25 يناير وليداً مبتسراً مشوهاً، غير كامل النمو، ولم يتخيلوا أن مصر ستصبح بفعل تيار الإسلام السياسي «المتسربع» علي السلطة، وطناً مستباحاً من الجميع يدفع أهله ثمن صراع السلطة والمعارضة علي الحكم وانشغال شباب الثورة بالمظاهرات والوقفات والاحتجاجات. هذا التيار الذي تقوده جماعة «الزبيب» كما أسماها ملك الأردن نسبة إلي العنب المجفف الذي يضعونه علي سجادة الصلاة فشل وبالثلث في إقناع المصريين بالمشروع الإسلامي، وبقدرة «الإخوان» علي إقامة نظام حكم ديمقراطي مدني مؤسسي، لا يحتكر السلطة، ولا يقصي الأقلية، ولا يسخر الدين لخدمة أغراضه وأجندته السياسية الخاصة. ولم يدرك هذا التيار - الذي يعتبر الديمقراطية مجرد رحلة في أتوبيس أن هناك فارقاً شاسعاً بين حكم العشيرة وحكم الدولة، فالأخير هو الأقوي والأبقي، ولكن لا يحميه الصندوق الانتخابي فقط، وإنما الاستقرار السياسي وديمقراطية الأغلبية والأقلية معاً. وعبثا حاول «الفرعون المنتخب» أن يقنع المصريين بأنه رئيس للجميع، وأن مصر هي الوطن وليس الجماعة، ولم يخجل من فشله في قيادة البلاد، وإنما خرج مؤخراً يرهب ويهدد ويتوعد الإعلاميين والسياسيين والباحثين عن الديمقراطية والحرية بأنه سيفعل.. ويفعل، مبتكراً نظرية «الأصابع الخفية» التي لا نستبعد أن تصدر أوامر بتدريسها لطلاب العلوم السياسية في الجامعات المصرية بشرط أن تنسب للرئيس مرسي. ولأن المعارضة جزء من نظام الحكم شاء أم أبي تجار الدين والخارجون من خنادق «الماسونية» فإنها تتحمل أيضاً مسئولية نشوء هذه الحالة السياسية الملتبسة والمشوهة، فهم أيضا عجزوا عن إقناع المصريين بأنهم البديل الأفضل والجاهز للحكم، عند سقوط دولة الإخوان بكل ممارساتها «الفاشية». فالأحزاب «قديمها وحديثها» يعاني أغلبها من الصراعات والانشقاقات والخلافات ويفتقد إلي مهارات قيادة وتحريك الشارع السياسي «إلا من رحم ربي».. فلو لدينا معارضة قوية منظمة وموحدة، ما عاشت مصر أزمة حكم ولا انهارت مؤسسات الدولة ورغم المحاولات التي تبذلها أحزاب جبهة الإنقاذ في هذا الاتجاه، إلا إنها تصطدم برعونة الرئيس وعناد عشيرته وجماعته. وما بين تيار الإسلام السياسي (إخوانا، سلفيين، جهاديين) والقوي الليبرالية واليسارية والاشتراكية، يقف شباب الثورة دون قائد، وبلا برنامج ثوري، بعد أن فرّطوا في ميدان ثورتهم الرئيسي، وتمزقوا في شكل ائتلافات وحركات وتيارات، وصاروا يتكلمون أكثر مما يفعلون، فالذين تصدروا المشهد ونزلوا الميادين أثناء الثورة، يختلفون عمن نراهم الآن، والأعلي صوتا و«جعجعة» امتهن الثورة، واكتفي بلقب ووظيفة ناشط وتصدر شباب الالتراس والبلاك بلوك، واجهة الميادين والشوارع المحتجة علي حكم المرشد. وصحيح أن «الإخوان» كأقوي فصيل بتيار الإسلام السياسي ورث تركة ثقيلة من فساد النظام السابق، إلا أن ذلك لا يعفيهم من مسئولية مواجهتها، فهم الذين تصدروا للحكم وكانوا أحرص الناس علي الوصول للكرسي، وكانوا أول من كذبوا وخدعوا وقالوا لدينا كل الخطط والبرامج والمشاريع والأموال التي تجعل مصر دولة أخري. وكم كانت صدمة الشعب وفصائل «الإسلام السياسي» الأخري كالسلفيين والجهاديين وغيرهم كبيرة في أصدقائهم وحلفائهم. فالإخوان لم يثبتوا بكل ارتكابهم وتضارب قراراتهم أنهم نموذج جيد للحكم الإسلامي، ولا سيما بعدما نالوا كل حريتهم وأصبح لهم إعلامهم الذي يحشد لصناديقهم ويدعم خطابهم الديني. ويبدو مستقبل الإسلام السياسي في مصر أكثر غموضاً، إذا ما علمنا أن 90٪ من هؤلاء الباحثين عن الزعامة حديثو العهد بالعمل السياسي وتلاحق أحزابهم وحركاتهم الانقسامات والاختلافات، وإن اتفقوا مع الرئيس مرسي وجماعته وحزبه علي المشروع الديني الإسلامي. فهم مستعدون دائما للدخول فيما بينهم في تحالفات انتخابية كجزء من أدوات اللعبة السياسية للوصول إلي تحقيق مآربهم وأهدافهم. ويشعر الكثير من المسئولين في حزبي النور (الدعوة السلفية) والبناء والتنمية (الجماعة الإسلامية) أنهم في مأزق حقيقي، وأنهم يدفعون ثمن أخطاء وحماقات السلطة وجماعة الإخوان. وفي ضوء رغبة وتعطش تيار الإسلام السياسي للحكم وعدم ترك الكرسي إلا بالدم، علي قوي المعارضة المصرية الوطنية والثورية أن تعيد النظر في آلياتها وبرامجها ومواقفها، فقد أثبتت تجارب الأمم والأوطان فشل الحكم الديني في السودان وأفغانستان، وأنه لا يأتي إلا بديكتاتور مستبد وإن بدا في عيون عشيرته وجماعته عادلاً يصلي ويصوم ويزكي ويعمل دائما علي تحقيق الخير للرعية. وأخيراً أقول لرئيس مصر الخارج من رحم الإسلام السياسي احذر غضبة الشعب، فإن مل الشعب الفوضي، لن ترهبه أصابعك وتهديداتك، وسيقيم نظاماً جديداً أشد استبداديا وديكتاتورية وعندها لا تستطيع جماعتك إسقاطه بسهولة هذه المرة.