طوال سنوات خمسة مضت، لم أقتنع أبداً بأنها قد رحلت، فكنت كلما مكثت ببيتي في المهندسين، أوقن أنها تهنأ بصحبة أبي وإخوتي في بيتنا بامبابة، وإذا ما هاتفت أختي لحوار قد يمتد لساعة، أقول لنفسي لن أسأل عنها، فربما قد غفت بعدما تناولت دواءالضغط، وشاهدت مسلسلها الأثير " لن أعيش في جلباب أبى" ومعشوقتها عبلة كامل، وفي اليوم الذى أذهب فيه لزيارة إخوتي يفاجئني خبر أنها في زيارة لخالتي في مدينة نصر. طوال خمسة أعوام ظلت أمي تذهب من مكان إلى آخر، أهم شروطه أنني لست موجودة فيه، وفي كل المناسبات التي مرت علينا في بيتنا والتي لم يكن لأم تعشق أبناءها مثل أمنا أن تتركهم فيها، كأول أيام شهر رمضان وأعياد ميلاد حبات البندق، روان و أحمد و بيجاد الهادئ هدوء الندى وإياد المشاغب الجميل،كنت أبحث عنها في الغرف الثلاث فلا أجدها، كنت أتساءل لماذا لم تصحو أمي لتتناول معنا سحورنا الرمضاني الأول كعادتها؟!،ولماذا هي نائمة حتى الأن؟!،وكنت وقتها أعرف لماذا يظل باب الغرفة الرابعة مغلقاً دائماً!. حتى عندما جادت علىّ الحياه بشلالات النور في حياتي روان وأحمد ، مكافأة الدهر وهدية العمر، كانت هي إلى جواري تتلقفهما بيد عاجزة عن حملهما إثر جلطة أصابتها، كضريبة لفرحتها بي بعد زواجي مباشرة، بعدها لم أتخيل طفلاً ثالثاً لا تكن يدها أول ما يستقبله، فاكتفيت بهما وتركت ما في نفسى من حب للأطفال ، لأبناء إخوتي الذين همتُ بهم جميعاً عشقاً، ولحكمة يعلمها الله جاءوا جميعاً ذكوراً. لم أحب يوماً زيارة لوح من الرخام زينه اسمها مسبوقاً بكلمة المرحومة منتهياً بتاريخ هجري 27 من رجب، رأفة ً بطفليّ وزوجي من يوم حتماً سوف يصبح مزاجي فيه سيئاً. أبي وأبي فقط ومنذ اللحظة الأولى هو الذى أيقن أنها قد رحلت، وقالها ملء فمه"رحلت أمي وأختي" أبىَ على نفسه الرأفة والرحمة التي اخترناها نحن لأنفسنا، فلا كنت أشعر برحيلها إلا عندما أنظر في عينيه، لذلك تحاشيتهما طوال سنوات مضت، كنت كلما نظرت في عينيه أُدرّك أن طفليّ فقدا جدة كانا يرتميان في أحضانها خوفاً من عقابي، فيأخذني بهما حناناً يسقط كل وعدى ووعيدي. لم أعترف أبداً أنها رحلت إلا عندما جاءت رُسل ابنة أخي محمد إلى الحياة، فعندما رأيتها للمرة الأولى وهى ما زالت كما استقبلتها الدنيا في غرفة التدفئة، شعرت أنني يمكنني أن أبكى فراق أمي، وأنها الآن والآن فقط قد رحلت، لا أعرف لماذا كلما رأيت رُسل تذكرت أمي رغم أنها جاءت لا تشبهها بل جاءت تمتلك من الجمال عوالمها الخاصة، ولم تراها. أصابني ندم كبير لأنني عارضت رغبة أخي في أن نطلق عليها اسم أمنا، فكلما رأيتها شعرت أن اسمها "نولة " ولا أعلم لماذا هي وهي فقط تذكرني بها، اليوم داخلني شعور بأنها بالفعل رحلت وأن شيئاً ما في الحياة قد تغير، الآن أبكيها، الآن أحزن و أنتحب، فيوم رحلت لم يكن لدى وقت لأحزن، كانت هناك قلوب أخرى أولى بالحزن مني، الآن أقول أنه بعدها أصبح للحياة وجه آخر، فالحزن لا يكتمل قبل الفرح، والحياة لوحة لن يستطيع صاحبها أن يمهرها بتوقيع يخبرنا بانتهائها وانتهائه، الأن أعى أن بيتنا ليس به غرفة رابعة ، الآن أنظر في عيني أبي وأدعو له بطول العمر، الآن أرغب في زيارة قبرها. نهلة النمر