قرأ القرآن فى فجر 6 أكتوبر 1973 وأصبح لقبه «قارئ العبور» رفض القراءة فى مأتم والدة «السادات» ليقرأ فى عزاء «عم خليل» صاحب مدرسة فريدة فى التلاوة.. وتراثه 10 آلاف ساعة نجلته «هناء»: الوحيد الذى استثناه التليفزيون من قراءة المكفوفين يوم الجمعة زوج ابنته: كان صاحب إنسانية راقية وأخلاق رفيعة حفيدته: منزله فى «كفر الزيات» كان مفتوحًا دائمًا للجميع كان الوقت ضيقًا للغاية عند السؤال عن منزل «أستاذ الوقف والابتداء والتلوين النغمى» كما أطلق عليه بين أقرانه وتلاميذه.. العلامة القارئ الكبير الشيخ محمد عبدالعزيز حصَّان، ذلك العلم القرآنى الذى ما زال يسكن أسماع آذان جماهير غفيرة فى العالمين العربى والإسلامى، أولئك الذين لا يذهب بعضهم سدى لمشايخ التلاوة الذين وهبوا لمصر قوة ناعمة دفعت بها لأن تتصدر بلدان العالم فى حفظ كتاب الله تلاوة وأداء، لتصدق المقولة الخالدة بأن «القرآن نزل فى بلاد الحرمين، وطبع فى أسطنبول، وقرئ فى مصر» لم يكن التواصل مع عائلة العلامة الشيخ «حصَّان» وليد لحظة آنية، بل رغبة دفينة فى صدرى منذ سنوات، فكلما صدح صوته عبر أثير الإذاعة كانت الأشواق نحو التعرف على عالمه والبيئة التى عاش خلالها وأولاده وأحفاده تتزايد، كنت قد تواصلت هاتفيًا مع الحاجة هناء حصَّان نجلة القارئ الإذاعى الكبير الشيخ محمد عبدالعزيز حصَّان للاتفاق على موعد للقاء أسرة الشيخ بمنزله فى مدينة كفر الزيات، إلا أن الموعد قد تأجل أكثر من مرة، نظرًا لظروف نجلته الصحية، لكن قدر الله لى أن أجدد طلب اللقاء مرة أخرى، وبالفعل وجدت ترحابًا شديدًا من نجلة الشيخ فهى لاتألو جهدًا من أجل الحفاظ على ذكرى والدها العلم القرآنى الكبير الراحل، وبالفعل تم الاتفاق، وفى اليوم المحدد قادتنى خطاى إلى مدينة كفر الزيات، حيث تقطن أسرة الشيخ الراحل، وعقب نزولى من القطار بدأت أسعى جاهدًا للسؤال عن منزل الشيخ «حصَّان» الذى غادر دنيانا منذ سنوات، إلا أننى لاحظت أن المدينة بالكامل تعرف مكان منزله، فالشيخ رغم رحيله منذ فترة كبيرة، لكن أثره باق فى قلوب محبيه وعشاقه من أبناء المدينة، بل والمحافظات المجاورة لها، وفى عمارة الشيخ «حصَّان» التى صارت معلمًا من معالم المدينة الكبرى أصعد درجات السلم إلى الدور الرابع، وفى منزل عامر بالقرآن تستقبلنى نجلته الحاجة هناء بترحابٍ شديد». فى صالون الشقة جلست حتى بدأ أنجال الشيخ وأحفاده يتوافدون للجلوس معى لأبدأ معهم الحديث. أنجب الشيخ «حصَّان»- رحمه الله- تسعة أبناء، ستة من الذكور، هم: إبراهيم ومحمد وهشام والشافعى ورضا وأحمد، وثلاثًا من الإناث، هنَّ: وفاء ومايسة وهناء، رحل منهم من رحل، وبقى منهم من بقى، ومن الابتلاء وفاة اثنين من أبناء الشيخ فى حياته، وهما «عبدالمنصف» الذى مات فى حادث أثناء رجوعه من محافظة كفر الشيخ، وكان يستمع لوالده فى قرآن الجمعة، و«رضا» الذى كان مريضًا وتوفى بعدها، وكان- رحمه الله- يسعد بأحفاده وينعم بدفء العلاقات الأسرية مع أولاده وأحفاده. «الوفد» تنقل هذا الحديث مع أسرة الشيخ محمد عبدالعزيز حصَّان من داخل منزله بكفر الزيات بالغربية وهذا نص الحوار: بدأ الحديث معى المهندس إبراهيم حصَّان نجل الشيخ الراحل قائلا: ولد أبى بقرية «الفرستق» التابعة لمركز بسيون والقريبة من مركز كفر الزيات بالغربية المحافظة التى أنجبت الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ خليل الحصرى فى 22 أغسطس علم 1928، وحفظ القرآن الكريم فى سن السابعة من عمره، وقد ساعده على ذلك تفرغه الكامل لحفظ القرآن الكريم بسبب فقد بصره، وبدأت علامات النبوغ تظهر على وجهه وهو صغير، حتى أن الشيخ على زلط صديق والده الحاج عبدالعزيز نصحه بالذهاب بابنه «محمد» لكتاب الشيخ عرفة الرشيدى فى قرية «قسطا» ليحفظه القرآن الكريم، وهى قرية مجاورة لقرية «الفرستق» التى ولد فيها الشيخ حصَّان، وكان الشيخ محمد يذهب للكتاب كل يوم سيرًا على قدمه بصحبة والده، ولم يتوقف طموحه عند هذا الحد، بل كان لديه طموح متفائل حتى تعلم القراءات السبع وحفظ متن الشاطبية فى عامين، وأصبح ينادونه بلقب الشيخ محمد، وكان يتلو القرآن بصوت وتجويد وتنغيم بالسليقة التى اكتسبها عن طريق سماعه لقراء الجيل الأول بالإذاعة، وكان الشيخ عرفة يطلب منه بعد المراجعة تلاوة بعض الآيات بصوته الجميل لتزيد ثقته بنفسه وليتعلم أحكام التلاوة ليجيد القرآن وتلاوته، وبعد مشوار طويل مع التلاوة على مدى 15 عامًا قارئًا للقرآن فى المآتم والسهرات والمناسبات المختلفة استطاع خلالها بناء مجده وشهرته بجهده وعرقه. وتتدخل الحاجة هناء حصَّان نجلة الشيخ قائلة: والدى تميز بأشياء كثيرة وأطلق عليه عدة ألقاب حتى كان يلقب بالقارئ الفقيه، وكان يبتكر كل جديد فى مسألة الوقف، وأصبح صاحب مدرسة فى فن التلاوة حتى صار له مقلدوه، وبالرغم من أنه كان يسير على نهج مدرسة الشيخ مصطفى إسماعيل لكن كانت له مدرسته الخاصة به، وكان السميعة يعشقون صوته العبقرى، لأنه جمع بين الجمال والخشوع والالتزام والإخلاص الشديد للقرآن وأحكامه، وقد ظل والدى يقرأ القرآن فى المناسبات الدينية الصغيرة والمآتم داخل قريته «الفرستق» والقرى المحيطة بها منذ الثلاثينيات حتى نهاية الخمسينيات عندما انتقل إلى مدينة كفر الزيات ليقرأ بشكل مباشر مع كبار ومشاهير القراء فى إحياء الليالى القرآنية ويقرأ إلى جانب العمالقة مثل الشيخ عبدالعظيم زاهر وكامل يوسف البهتيمى ومحمد صديق المنشاوى وعبدالباسط عبدالصمد ومحمود على البنا لكن والدى كان متأثرًا بشكل كبير بالشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ محمود الحصرى، وذاع صيته وانتشر ليصبح ثالث أشهر قارئ للقرآن الكريم بمحافظة الغربية إلى جانب هذين الشيخين الكبيرين، حتى عرف صوته المسلمون فى شتى أنحاء العالم الإسلامى خاصة بعد التحاقه بالإذاعة. الحاجة وفاء حصَّان تلتقط طرف الحديث من شقيقتها وتستكمل قائلة: أبى رحمه الله كان قد ذاع صيته وعشق الناس وكان يبادلهم حبًا بحب، فقد كان قارئًا مخلصًا بنى مجده وشهرته بالجهد والعرق والالتزام وتقوى الله فى التلاوة، بالإضافة إلى أهم شىء وهو حب الناس حتى اتسعت قاعدته الجماهيرية بسبب موهبته، حتى جاء وقت التحاقه بالإذاعة، وكان يقرأ فى مأتم أحد الأشخاص بكفر الزيات حتى قال له ابن المتوفي: «يا شيخ محمد أنت مثل مشاهير القراء فى الإذاعة ولا فرق بينك وبينهم، فلماذا لا تتقدم للإذاعة للاختبار حتى تقرأ بها ويسمعك ملايين الناس»، وبدأت الفكرة تختمر فى رأس والدى، حتى أن هذا الشخص هو الذى كتب له الطلب وقدمه بنفسه، وبالفعل تقدم والدى لاختبار الإذاعة أمام لجنة القراء فى يناير 1964م، ولم تقف إعاقته وفقده للبصر وقتها عائقًا أمامه، ولكن اللجنة أعطته مهلة لمدة شهور، ثم تقدم مرة أخرى للاختبار أمام الإذاعة وحصل على مرتبة الامتياز فى الاختبار الثانى، وكان عام 1964 م بداية تاريخه الإذاعى، ليبقى وحده بين القراء المعاصرين على قمة تمتد لنصف قرن وما يزيد من العطاء القرآنى المتميز خصوصًا بعد أن أصبح قارئًا للسورة بالمسجد الأحمدى فى طنطا. وبسؤال الحاجة وفاء عن قصة التحاق والدها بالمسجد الأحمدى قالت: تم تعيين أبى الشيخ «حصَّان» قارئًا للسورة فى المسجد الأحمدى بطنطا بقرار جمهورى من الرئيس الراحل محمد أنور السادات عام 1980، فقد كانت له ذكريات مع مدينة طنطا، كان يقف خاشعًا باكيًا على أبوابها، فقد حفظ القرآن بها وتعلم علومه وجوده، والتقى مع عشاق صوته واستمعوا له، فقد كان يقرأ بها كل أسبوع حتى جاءه تكليف من الرئاسة وقتها بأن يكون قارئًا للسورة بأشهر مساجد مصر «المسجد الأحمدى بطنطا» وكان يقول إنه من حسن حظى أن منَ الله على وجعلنى خادمًا للقرآن وقارئًا للسورة، وكانت الدعوات تنهال على والدى كل عام للسفر من أجل إحياء الحفلات والمناسبات الدينية، لكنه كان قليل السفر، وكان يعتذر ويرفض كثيرًا معظم الدعوات التى كانت تأتيه من الخارج، حتى أن إذاعة القرآن الكريم بدولة إيران أرسلت له العديد من السفريات إلى دول الخليج العربى فسافر إلى الإمارات بدعوة خاصة من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والمملكة العربية السعودية التى كان يعتبرها وطنه الثانى بعد مصر، وكان يشعر بحبها فى قلبه ويحس بالأمان فيها لحسن معاملتهم وشدة إعجابهم وتقديرهم له ولأهل القرآن خاصة أنه صاحب مدرسة متفردة فى عالم التلاوة ويعتبر الوحيد من مكفوفى البصر بين القراء فى القرن العشرين الذى سافر لإحياء ليالى شهر رمضان المعظم بدعوات رسمية خاصة من معظم دول الخليج العربى فى منتصف الثمانينيات. وعن أبرز الذكريات تقول الحاجة وفاء: أبى هو القارئ الوحيد الذى لم يطبق عليه قرار المسئولين بالتليفزيون المصرى بمنع ظهور القراء كفيفى البصر بالحفلات والجمعات التى ينقلها التليفزيون فى بث مباشر على الهواء من المساجد، وكان سبب القرار هو صعوبة تنبيه القراء كفيفى البصر إلى انتهاء الوقت المخصص للقراءة، ولم يجرؤ أحد من مسئولى التليفزيون وقتها على إزاحة والدى عن قراءة قرآن الجمعة فى الجمعات التى كان ينقلها التليفزيون من الجامع الأحمدى بطنطا رغم أن رئيس الجمهورية الأسبق حسنى مبارك حضر الجمعة الأخيرة من رمضان ذات مرة فى الجامع الأحمدى فى بداية التسعينيات من القرن الماضى ولم يجرؤ مسئولو التليفزيون على تغيير الشيخ حصَّان، لأن الناس كانت لن توافق على ذلك، فكان أبى هو القارئ الوحيد الذى استثنى من القرار. العميد سيد محمد جمعة زوج ابنة الشيخ يقول: الشيخ محمد حصَّان كان بمثابة والدى لم أر مثله فى حياتى، فمنذ أن دخلت بيته لأطلب يد ابنته للزواج وهو يعتبرنى ابنه ووجدت معاملة لم أرها من قبل، فقد احتوانى وكان يسيرًا معى فى معاملاته، ولديه إنسانية طاغية وأذكر أنه عندما وقعت نكسة 5 يونيه 1967 كانت أمنية تمناها من الله هى أن يقرأ فجر اليوم الذى تحارب فيه مصر العدو الصهيونى، وشاءت الأقدار أن يعتذر الشيخ محمود البيجرمى عن قراءة هذا الفجر، لأن حماه توفاه الله، وبالفعل تم التواصل مع الشيخ «حصَّان» ليقرأ الفجر مكانه وذلك عصر يوم 6 أكتوبر، ولم يكن الشيخ «حصَّان» يعلم وقتها أن مصر بدأت تشن حربها على إسرائيل ووافق بالفعل على القراءة وقتها وتوجه ليلًا للمسجد الحسينى بالقاهرة، وكان المسجد مكتظًا بالمصلين فى فجر يوم السابع من أكتوبر، وقرأ من أواخر سورة الأحقاف وأوائل سورة محمد، ووقتها طلبت السيدة صفية المهندس المسئول عن الوقت إتاحة المجال أمام الشيخ «حصَّان» ليقرأ أطول فترة ممكنة، وبسبب ذلك لقب الشيخ حصَّان ب«قارئ النصر» و«قارئ العبور» فالشيخ حصَّان كان كله بركة وخير وإنسانية راقية. المهندس عمرو محمد عبده حفيد الشيخ لابنته يقول: جدى لم يكن يشغله إلا تقوى الله وكان يحب أولاده وأحفاده جدًا، أفتخر كثيرًا بأننى حفيده وأنا أرى حب الناس له فى كل مكان، وقد كان إنسانًا بمعنى الكلمة وفيا بوعوده، وأذكر أن هناك رجلًا كان يدعى الحاج خليل يعمل فراشًا بجوار إحدى المدارس بكفر الزيات وكان يحب الشيخ «حصَّان» وأوصى أسرته وأقاربه بأن يدعوا الشيخ «حصَّان» للتلاوة فى مأتمه عند وفاته، وكانت الأسرة لا تستطيع دفع تكاليف المأتم، وعند وفاته تمت دعوة الشيخ بالفعل وعلم بالموقف فما كان من الشيخ إلا أنه تكفل بمصاريف العزاء ووعدهم بأنه سيقرأ فيه، لكن حدثت مفاجأة، حيث اتصل به كبير ياوران رئاسة الجمهورية الفريق محمد سعيد الماحى ليقرأ فى عزاء والدة الرئيس «السادات» لكن الشيخ «حصَّان» اعتذر لهم عن عدم الحضور لأنه مرتبط بقراءة فى عزاء آخر وهو عزاء الحاج خليل، وبعد ذلك تمت دعوته لحضور حفل أربعين والدة الرئيس السادات فوافق الشيخ وعندما حضر استقبله الرئيس السادات مداعبًا له وقال له: «والله أنت كبرت فى نظرى قوى يا مولانا عندما علمت أنك اعتذرت عن عدم الحضور فى مأتم والدتى لتفى بوعدك مع أولاد عم خليل بتاع الفراشة». أما الدكتورة رضوى حفيدة الشيخ فتقول: أغلى اللحظات فى حياة جدى كانت عندما يجتمع بأفراد أسرته وأحفاده فى وقت واحد فى منزله بكفر الزيات، وكان حنونًا للغاية يمرح مع أحفاده وقد عشقت صوته ولم أكن أدرك قيمته لأننى كنت صغيرة، وعندما أدركت علمت مقداره وحب الناس له وعشقهم لصوته فى التلاوة رحمه الله، فقد كان تقيًا ورعًا وإنسانًا حنونًا على أولاده وأحفاده. أما المحاسب محمد إبراهيم حصَّان حفيد الشيخ فيقول: كنت أرافق جدى فى الليالى القرآنية والحفلات، وأرى مدى عشق السميعة لصوته، فقد كان متأثرًا بتلاوة الشيخ مصطفى إسماعيل كثيرًا، لكن كانت له بصمته الخاصة يستشعر القرآن بصوته العذب فتشعر وأنت تسمعه بآيات الرهبة وآيات الرحمة، فقد كان يمتلك صفات ومميزات كثيرة أهلته لأن يصبح صاحب مدرسة فى فن التلاوة وحسن الأداء وجماله وعذوبة صوته حتى لقب بأستاذ الوقف والابتداء والتلوين النغمى، وقد حصل أحد الدارسين فى علوم القرآن على رسالة دكتوراه عن الشيخ حصَّان فى الوقف والابتداء بعنوان «التصوير النغمى للقرآن الكريم» «علم التنغيم» عام 1990 وهو الدكتور محمد العيسوى محمد نجا بجامعة الملك عبدالعزيز آل سعود فى السعودية. وكما بدأت الحديث تختتمه الحاجة هناء حصَّان نجلة الشيخ عن المحطات الأخيرة فى حياة أبيها الشيخ الراحل قائلة: توفى والدى ليلة الجمعة 2 مايو 2003 وأقيمت صلاة الجنازة عليه فى مسجد السيد أحمد البدوى بطنطا، وكان قد قال لنا فلى إحدى المرات «يا أولاد لما أموت صلوا على صلاة الجنازة مع صلاة الجمعة فى المسجد الأحمدى بطنطا» لتتحقق أمنيته، ويتوفى يوم الجمعة ليصلى عليه فى المسجد الأحمدى، ومن مفارقات القدر أن أمى توفاها الله فى عصر نفس اليوم، وقد ترك تسجيلات عدة وتراث يقدر ب«10» آلاف ساعة من التلاوة.