أحسن الكاتب اللامع عبدالعظيم حماد عندما أشار إلي قاعدة القوة التي يستند إليها الإخوان المسلمون في الولاياتالمتحدة بنشاطهم الواسع والمنظم في المجتمع الأمريكي الذي تقوم علي سيادة القانون وعلي حق المواطن في التعبير والتنظيم، بغض النظر عن ديانته أو عرقه، وفوق كل ذلك فهو يقبل بالتنوع ويحرص عليه. الإخوان المسلمون قوة في الولاياتالمتحدة، ليس فقط لأن لديهم علاقات مع المخابرات وبقية أجهزة الدولة الأمريكية، ولكن أيضا وهذا هو الأهم اليوم، في عصر المنظمات الأهلية، عصر المواطن، لأن لهم حضورا قويا ومنظما في الولاياتالمتحدة مكنهم من الاستفادة من قاعدة سكانية مسلمة اقترب عددها من ثلاثة ملايين نسمة في عام 2011 وفق ما جاء في تقرير صادر في ذلك العام عن مركز بيو للأبحاث بعنوان «مستقبل السكان المسلمين في العالم». وقد ظهر المسلمون في الولاياتالمتحدة في الفترة بين 1880 و1914 كمهاجرين من مختلف أرجاء الإمبراطورية العثمانية ومن جنوب شرق آسيا، كما يقال إن 15٪ من العبيد الذين خطفهم الأمريكيون من مناطق ساحلية في أفريقيا ليعملوا في مزارعهم كانوا مسلمين. مسجد في ميونيخ لكن الصحفي الأمريكي الحائز علي جائزة بوليتزر إيان جونسون يشير في كتابه «مسجد في ميونخ» إلي بداية العلاقة السياسية الطويلة بين المسلمين والولاياتالمتحدة بالوقوف أمام لجوء مسلمين سوفيت هاربين من الاضطهاد الستاليني إلي ألمانيا النازية، حيث عوملوا معاملة طيبة، وعلي الفور بادرت جماعة الإخوان المسلمين بمد يدها للولايات المتحدة كقوة إسلامية تتعاون مع الديمقراطية العالمية، وهذا سلوك كان يمكن أن يكون طيبا ونافعا، فالعاقل هو من يقف مع الديمقراطية ضد النازية الكارهة للبشر والتي كانت تصنف الجنس العربي مع الكلاب والقردة، رغم دعايتها الكاذبة التي كان يبثها راديو برلين بصوت مذيعه العراقي الشهير يونس بحري. كان يمكن أن يكون هذا طيبا ونافعا لو أن الإخوان فعلوا ذلك من أجل أوطانهم وليس من أجل جماعتهم، ودليل سوء النية أنهم شهروا بمصطفي النحاس باشا عندما قرر أن يقف في صف الديمقراطية العالمية لأنه واثق من انتصارها ولأنه يعلم أن سلامة البلاد وكرامة العرش، رغم جهل الملك ونزقه، يقتضيان تجنب صدام مع بريطانيا وهي تستعد لخوض معركتها الفاصلة مع المحور، لم يشهروا بالنحاس فقط ولكن أيضا قتل أحد أعضاء الحزب الوطني الموالين للإخوان المسلمين أحمد ماهر باشا لأنه أراد أن تنضم مصر إلي الحلفاء في أواخر الحرب بعد أن أصبح انتصارهم جليا لا تخطئه عين حتي يكون لها مكان بين المنتصرين!!. الميدان هناك وانتهت الحرب بانتصار الديمقراطية العالمية كما توقع النحاس وتحولت جماعة الإخوان من مناصر للولايات المتحدة ضد النازية إلي مناصر لها ضد الشيوعية، ولعل بعضنا يذكر ما قاله الإخواني مصطفي مرعي عندما سافر إلي الولاياتالمتحدة في الأربعينيات «الميدان هناك». لكن ربما يكون أهم تحول في العلاقات بين الإخوان وأمريكا في النصف الأول من القرن العشرين هو التحول الذي طرأ علي عقل ووجدان سيد قطب عندما سافر إلي الولاياتالمتحدة إسلاميا معتدلا وعاد في 1951 إسلاميا متطرفا، كما يشير الباحث الفرنسي جيل كيبيل في كتابه «النبي والفرعون»، وقد تحول تطرف سيد قطب إلي جائحة عالمية مهلكة انطلقت من مصر ولا تزال تشعل النار في كافة أنحاء العالم المسلم، منذ انقلبت أمريكا علي عبد الناصر في 1964، في العام الذي اكتمل فيه بناء السد العالي، وزاد فيه تورطه في اليمن كخيبة تاريخية كبري، فحركت أمريكا ضده منظمة السنتور خارجيا وتحرك ضده القطبيون داخليا. وحتي وفاة عبدالناصر، وربما حتي وقت قريب ظلت العلاقة بين جماعة الإخوان وأمريكا هي علاقة بين منظمة دولية تجمع بين العلنية والسرية وتخلط الدين بالسياسة وبين الأجهزة المختلفة لدولة كبري لها مصالح في بلاد المسلمين تحارب من أجلها منذ معركة درنة الليبية الفاشلة، أول معركة تخوضها القوات الأمريكية خارج حدودها في تاريخها. وقد تعرض كتاب هلال وراء الغيوم الذي وضعه المؤرخ الأمريكي المنصف للإسلام والمسلمين روبرت أليسون لهذه المعركة في كتابه «هلال وراء الغيوم» الذي ترجمه كاتب هذه السطور للمركز القومي للترجمة. ويشير إيان جونسون، مثلا إلي أن الخارجية الأمريكية ومكتبة الكونغرس مولا الندوة الإسلامية، التي عقدت في جامعة برنستون والتي يقول جونسون إنها ربطت بين الولاياتالمتحدة «كدولة وأجهزة» وبين الإخوان. في الحرب الباردة وقد أثبت الإخوان ولاءهم للولايات المتحدة والغرب طوال فترة الحرب الباردة ووصل أداؤهم الذروة عندما تخلت الدولة المصرية عن حيادها الذي أسس مبدأه مصطفي النحاس برفضه الاشتراك في الحرب إلي جانب الولاياتالمتحدة في كوريا، وحوله جمال عبدالناصر إلي تيار عالمي بدوره العظيم في حركة عدم الانحياز. حدث التخلي عندما تصرف أنور السادات ببراغماتية لإخراج مصر من ورطتها التي وقعت فيها بسبب مثالية الستينيات وشاعريتها الخيالية، فسمحت للإخوان بحرية الحركة وساعدتهم علي لعب دور تاريخي في أفغانستان ضد السوفيت ومنحتهم بذلك رصيدا جبارا باعتبارهم شركاء في تدمير الإمبراطورية السوفيتية التي كانت أفغانستان مقبرتها. اللعبة الكبري ومرة أخري وضع الإخوان تلك في حسابهم الخاص بعيدا عن الدولة وبدأوا اللعبة الكبري مع الأمريكان: تخليق وحش أصولي يعطي الغرب مبررا لإشعال حروب دينية يحيي بها مبيعات السلاح التي هددها سقوط السوفيت، ويظهر الإخوان بمظهر القوة الإسلامية المعتدلة. وأولي فقرات هذه اللعبة المرعبة - التي تسيل بسببها الدماء وتزهق الأرواح وتتقلقل الدول والمجتمعات - كانت إنشاء جمهورية إيران الإسلامية بمساعدة من الإخوان، كما يقول عدوهم اللدود روبرت دريفوس في كتابه «لعبة الشيطان». وقد أثبتت الأيام صدق ما قاله دريفوس عن العلاقة بين الإخوان الذين يفترض أنهم سنه وبين إيران التي يفترض أنها دولة شيعية، والرأي عندي أن لا هؤلاء سنة ولا أولئك شيعة كلاهما باطني غامض يسعي إلي القوة والنفوذ، بأي ثمن. هؤلاء الباطنيون يسعون لتحقيق مشروع وثيق الارتباط بالرؤية البروتستانتية للشرق الأوسط، والبروتستانتية مذهب مسيحي إنساني عظيم لكن ارتباط شرائح قوية من البروتستتانت بالرؤية التوراتية للشرق الأوسط هو ارتباط خطير بني جسرا بين مشاريع الإسلام السياسي في منطقتنا وبين الصهيونية، خاصة بعد أن وقع التحول الثاني الخطير في العلاقة بين الولاياتالمتحدة والإخوان وهو التحول الذي جعل الإخوان يتعاملون مع الدولة الأمريكية بقوة حضورهم علي الأرض الأمريكية، بقوة شبكاتهم الواسعة والنشيطة في المجتمع الأمريكي. وسوف نواصل الحديث عن هذه العلاقة الممتدة كعمر كامل «أري أنه يقترب من نهايته»، بين الإخوان وبين أمريكا، في مقال تالٍ.