حقيقة التوكل من الصعب تعريفها كما تعرف الأمور الأخرى بماهياتها ، وإنما يعرف التوكل بآثاره . كما قال العلماء فى التيار الكهربائى ، وقد قال الإمام الغزالى - وهو الفيلسوف الصوفى الفقيه الأصولى فى حديث التوكل : إنه غامض من حيث العلم . ثم هو شاهد من حيث العمل ، ووجه غموضه من حيث الفهم أن ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك فى التوحيد، والتثاقل عنها بالكلية طعن فى السنة وقدح فى الشرع ، والاعتماد على الأسباب من غير أن ترى أسباب تغيير فى وجه العقل وانغماس فى غمرة الجهل ، وتحقيق معنى التوكل على وجه يتوافق مع مقتضى التوحيد والنقل والشرع فى غاية الغموض والعسر، ولا يقوى على كشف هذا الغطاء مع شدة الخفاء إلا سماسرة العلماء . وقد أطال الغزالى فى توضيح ذلك ، ولكن بعبارة بسيطة يمكن أن أقول : إن التوكل هو الإيمان بأن الله سبحانه هو الواحد المتفرد بالخلق ، ومنه كل النعم ، وإليه المرجع والمصير، مع إظهار مسحة هذا الإيمان على السلوك فى القول والعمل ، وامتثال أمر الله والسير على منهجه الذى أوحى به إلى الرسل . ولو طبقنا هذا المعنى فى طلب الرزق مثلا فلابد فى التوكل من الإيمان بأن السعى والجد فى العمل وحده لا يمكن أن يوصل إلى النتيجة إلا بإرادة الله سبحانه ، فقد يكون هناك سعى وجد وعمل ولا يكون من وراء ذلك تحقيق ما يريده الإنسان ، فلا بد من الأمرين : وقال الشيخ عطية صقر رحمه الله ان الأخذ فى الأسباب ثم تفويض الأمر إلى الله سبحانه وانفراد واحد منهما عن الأخر خطأ . فالأخذ بالأسباب دون التفويض لله يناقض الإيمان ، وربما لا يوصل إلى المطلوب ، والتفويض لله فقط دون الأخذ بالأسباب تعطيل لقانون الله وعدم امتثال لأمره بالسعى والعمل ، وهذا ما يعرف بالتواكل . وعلى ضوء ذلك من يقتصر على الإيمان بقوله تعالى{وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها} هود : 6 ، دون تنفيذ لقوله تعالى { هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه } الملك :15 ، يكون مخطئا ويطلق عليه اسم المتواكل ، يوضح ذلك ما حدث أن رجلا ترك ناقته على باب المسجد النبوى وقال للرسول صلى الله عليه وسلم هل أتركها بدون عقل -قيد- وأتوكل على الله ليحفظها أو أعقلها - أقيدها بالعقال ؟ فقال له "قيدها وتوكل " رواه ابن خزيمة والطبرانى بإسناد جيد . وقد يوضح هذا أيضا قول النبى صلى الله عليه وسلم " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " رواه الترمذى وقال: حسن صحيح فالطير تبارح الأعشاش لتطلب رزقها ولا تنتظر وتفتح أفواهها لينزل لها الرزق من السماء وهى راقدة فى الأغشاش . يقول أبو الفتوح الرازى الواعظ المفسر الفارسى المولود بالرى فى أواخر القرن الخامس الهجرى : توكل على الرحمن فى كل حاجة * ولا تتركن الجد فى شدة الطلب ألم تر أن الله قال لمريم * وهزى إليك الجذع يساقط الرطب ولو شاء أن تجنيه من غير هزه * جنته ولكن كل شىء له سبب [ مجلة الإخاء العدد 193 فى إبريل 1971 م بقلم محمد على رزم آشين ] والموضوع طويل يراجع فى "إحياء علوم الدين " للأمام الغزالى ج 4 ص 210