إن التوكل على الله تعالى هو سلوك الأنبياء والصالحين الواثقين بالله وفى الله، وهو صفة العبد الصادق مع ربه، الموقن أن النافع والضار هو خالقه ورازقه ومولاه، قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»، والتوكل قرين العبادة التى لا تتحقق إلا به امتثالاً لقوله تعالى: «فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ». والتوكل على الله تعالى والاتكال عليه هو الاعتماد على الله عز وجل، يقول صاحب اللسان: وكلت أمرى إلى فلان أى ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه، ووكل فلان فلانًا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته أو عجزًا عن القيام بأمر نفسه، وفى شرح رياض الصالحين قيل إن التوكل: هو اعتماد الإنسان على ربه عز وجل فى ظاهره وباطنه فى جلب المنافع ودفع المضار، قال تعالى: «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِى لَا يَمُوتُ» وقال تعالى: «وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ». فالتوكل على الله يعتمد على أمرين؛ أولهما : اعتماد القلب على الله والثقة بوعده؛ إذ التوكل من أعمال القلوب العظيمة التى لا يصح إيمان العبد إلا بتحقيقها، فعن سعيد بن جبير قال: التوكل على الله جماع الإيمان، وقيل إنه كان يدعو بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ اللهم إنى أسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك “. وثانيهما : الأخذ بالأسباب المشروعة، فعن أنس رضى الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: «اعقلها وتوكل»، وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا». ولقد أمر الله تعالى بتعاطى الأسباب مع التوكل عليه وهو ما يسمى التلازم بين التوكل والأخذ بالأسباب «اعقلها وتوكل»، فلا يتحقق التوكل دون الأخذ بالأسباب فى كل الأحوال حتى مع الاستطاعة البسيطة، كما أمر الله تعالى مريم رضى الله عنها:«وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا» وهى امرأة فى المخاض لا تقوى أن تحرك شيئًا يسيرًا لا أن تحرك جذع نخلة مثمرة؛ إلا أن الأمر جاءها بأخذ السبب بهز جذع النخلة ليتصل بالمسبب فتحصل النتيجة بسقوط التمرات عليها، فالأسباب وحدها لا تعمل ولا تؤدى مرادها إلا بإذن الله تعالى وصدق التوكل عليه. يقول ابن رجب الحنبلي: روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول فى دعائه: «اللهم اجعلنى ممن توكل عليك فكفيته». واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافى السعى فى الأسباب التى قدر الله سبحانه المقدورات بها، وجرت سنته فى خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطى الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعى فى الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل عليه بالقلب إيمان به، كما قال الله تعالى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ». وإذا كانت حقيقة التوكل كما ذكر العلماء أنها صدق اعتماد القلب على الله عز وجل فى استجلاب المصالح، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة، فإنه ينبغى علينا التوكل على الله والأخذ بالأسباب المشروعة التى أصبحت العامل الأصيل فى المهن والصناعات التى تُعَدُّ من فروض الكفايات، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتمد جميع الأسباب بعد التوكل على الله تعالى، ففى غزوة بدر جعل الشمس خلفه حتى إذا طلعت تتجه إلى عيون المشركين، وفى أُحد لبس درعين حيث وازن صلى الله عليه وسلم بين التوكل على الله والإيمان به وبين الأخذ بالأسباب المشروعة، تربية للأمة فى الأخذ بسنن الله فى خلقه.