لأول مرة أتوارى خجلا من مشاركتي في الثورة. ما كنت أتخيل أن المظاهرات العظيمة التي خرجت كالطوفان ليواجه من انضم إليها الموت ألف مرة على يد زبانية النظام البائد، ستتحول مع الأيام إلى مصدر عار. فقد تركت تلك الأيام لنا ميراثا ضخما من الأحداث التي نفخر بها أمام أنفسنا والأجيال القادمة، فإذ بأيادي سوداء تدبر أمرا جعلت الأهل الذين كانوا يستمعون بإنصات، عندما نتحدث عن أيام النصر، ينقلبون علينا، وبعد أن كنا مصدر أمل وتفاؤل أصبحنا مصدر شؤم وخراب. لم تستطع فضائيات الفلول وأجهزة الإعلام التي يحركها أراجوزات النظام السابق والمتحولون عنه، في النيل من حبنا للثورة، التي أعادت للمصري ثقته في نفسه. ولم تتمكن أعمال البلطجة وسيطرة رجال الأعمال الذين صنعهم النظام الفاسد على مقدرات الدولة وسياسة النفي للخصوم من جرجرتنا إلى فئة المطالبين بالانتقام والرد على العنف بالعنف، لإيماننا أنه ما من ثورة إلا وعرفت ظاهرة ركوب المرائين على جثث شهدائها وظهور أبطالها. لكن لم نشهد ثورة قامت بتأييد الملايين من المصريين، لتصبح مصدراً لكارثة على البلد التي كانت تنتظر إرهاصاتها منذ سنوات، كما يحدث الآن في الثورة المصرية. عرف المصريون حالة الانفلات الأمني عقب نجاح الثائرين في زلزلة عرش جنود الفرعون السابق، وصبر الجميع عليها، باعتبارها عرضا للنظام البائد. بدأ الانفلات بهروب قوات الشرطة من الشوراع، ثم إطلاق بعض أفرادها النار عشوائيا على أسواق الذهب والأماكن التجارية، وعندما قلت حيلتهم وعلموا أن أمر الله لواقع والثورة انتصرت، سمحوا لمرشديهم بالعمل في كل مكان. اختار بعض الأفراد العمل للحفاظ على وظائفهم، بينما الكثرة امتنعت عن ممارسة مهامها، وأخيرا يتظاهرون لأنهم لا يريدون أن يعودوا إلى وظائفهم وممارسة مهامهم التي خولها لهم القانون. مشهد الانفلات الأمني بدا في فضائيات الفلول مظاهرات ضد النظام الجديد، وعدم استجابة رجال الأمن للقانون بطولة لمنع أخونة الدولة. اختلط الحابل بالنابل لدرجة أن الناس لم تعد تميز بين رجل القانون والبلطجي. وسط المشهد العبثي انطلقت جماعات «البلاك بلوك» التي يفخر بعض صغار الضباط الذين تركوا الخدمة وشباب يدعون أنهم ينتسبون إلى مهنة المحاماة، وغيرهم من نشطاء سياسيين، تضرب يمنة ويسارا. لم تدهشني تصرفات هولاء «البلاك بلوك» عندما كنت بجوارهم في ميدان التحرير أحيانا، رأيت منهم حماسا شديدا للتغيير، ومقاومة لتيار حاكم يعتقدون أنه يريد الهيمنة على مقدرات الدولة إلى الأبد. وعشت معهم عددا من الساعات في تظاهراتهم الليلية عقب تصادمهم مع قوات الأمن عند مقدمة شارع محمد محمود. عذرتهم عندما حاصروا مكاتب بعض المحافظين في الأقاليم، باعتبارهم شبابا يستعجل نتائج الثورة. ودافعت عنهم عندما امتدت أيدي بعضهم إلى حرق المكاتب الحكومية، ملقيا بالمسئولية على البلطجية الذين يندسون وسطهم وهم الذين يجيدون الكر والفر، ويدسون قنابل المولوتوف والحجارة، في أيدى الشباب ويهربون بجلدهم قبل أن يمسهم أحد بسوء. التعاطف مع الثائرين، جعل المرء يشاهد بعض حوادث «البلاك بلوك» على أنها مجرد مظاهرات للتعبير عن الغضب، ولم أفكر للحظة أن ألقي باللوم عليهم في أمر سيئ، أو نعترض على المظاهرات التى تنطلق بهم من تجمعات محددة وتيارات سياسية نعلمها، باعتبار ما يفعلونه أمراً طبيعياً في فترة الفوران الشعبي التي تمر بها البلاد. فجأة تحول المشهد المثير بين «البلاك بلوك» والنظام إلى مجابهة بين أفراد هذا التنظيم والشعب، وبرز الأمر جليا، عندما أراد هؤلاء منع المواطنين من ركوب مترو الأنفاق الأسبوع الماضي. تحول المنشقون على النظام إلى يد لضرب الناس وكأنها تعاقب الشعب على اختياره النهج السلمي في مكافحة السلطة. شباب «البلاك بلوك» حاول تصدر المشهد السياسي كأنهم مجموعة من الأبطال الذين سيتصدون لسلطة يرونها فاشلة ومستبدة، فإذا به يرتكب أفعالا مشينة في حق المواطنين، ويرتكب أعمال البلطجة ضد البسطاء ومرافق الدولة. كنت أحسب أن ظاهرة «البلاك بلوك» رائجة في المدن الكبرى وتسوق لها أجهزة إعلام الفلول التي أظهرت بعض رموزها على أنهم أبطال ثائرون، ولكن عندما وصلت قريتي نهاية الأسبوع الماضي وجدت أن أفعالها تخطت كل حدود. فما من أحد لاقيته إلا وكان يسب ويلعن ويسميهم بالمجانين الذين يرتدون الملابس السوداء. لقد أصبح «البلاك بلوك» في كل ركن ،وهؤلاء هم قطاع الطرق الجدد في القرى وبين الزراعات. يقفون على نواصي الشوارع ليخطفوا حقائب البنات مع حلول الظلام. وعندما انتبه الناس إليهم، أصبح منهم من يركب دراجة بخارية أو توك توك، لينقض على الفريسة في «عز الظهر» ويفر بما خطف كالبرق. نويت الصوم عن الكلام في تلك الزيارة الخاطفة، حتى أهرب من نظرات الغاضبين على الثورة، مع ذلك جاءني من يطالب بالثأر مني وكل من شارك فيها. فالناس في القرى تندب حظها العاثر هذه الأيام، ليس غضبا من ارتفاع السلع وندرة السولار وصعوبة المعيشة وعدم وضوح الرؤية في المستقبل فحسب، بل لأن كارثة «البلاك بلوك»أصابت كل بيت. فأعمال البلطجة التي انتشرت في كل مكان، منعت التقاء الفلاحين بالتجار. فعلى تقاطعات الطرق ينتشر المرشدون، للإدلاء بمعلومات حول حركة التجار الذين يذهبون للقري لشراء المحاصيل الجاهزة للبيع في الحقول هذه الأيام. وأفضل التجار من يتوجه لشراء الخضراوات مثل الطماطم والفلفل والفاكهة الناضجة على الأشجار منذ أسابيع. وهؤلاء في العادة يحملون معهم المال لمنحه للزارع الذي يفضلون محصوله، وينقلونه فورا للأسواق بالمدن الكبري والعاصمة. ولم يعد أمام الفلاح المصري أي خيارات في البيع سوى هذه النخبة التي تتحكم في الأسعار، بعد أن توقفت صادرات الشركات الكبري للدول العربية والخارج. ورغم أن الفلاحين يتحملون خسائر كبيرة هذه الأيام مع ارتفاع تكلفة الزراعة وشراء مستلزمات الانتاج، إلا أن سوء الأسواق دفعهم للتضحية بالبيع بأقل الأسعار. مع ذلك لم يرحمهم «البلاك بلوك» وأشباههم من البلطجية الذين احترفوا الهجوم على التجار والمزارعين الذين يتحركون في الأرياف. أصبحت التجارة في الريف شبه مستحيلة، في موسم جنى المحاصيل، لذا ترتفع الأسعار في المدن غير القادرة على شراء حاجاتها إلا عبر تجار يملكون السلاح والمال الكافى للانفاق على « ميلشيات» تستطيع مواجهة «البلاك بلوك» وأشباههم في المحافظات، بينما المزارع في أحسن الأحوال يبيع بسعر التكلفة. انتقلت حزمة الخسائر إلى مربي الدواجن والمواشي، وأصحاب الحدائق التي فشلت في بيع منتجاتها، بما يعني أن هذه الفئة التي تضم ملايين الأسر ذات الدخول المتوسطة والعالية، ستنضم حتما إلى قافلة المعوذين أو المهددين بالسجن لأنهم يقترضون على ذمة بيع المحاصيل. لم تنجح مظاهرات الثائرين ضد طغيان النظام السابق إلا بعد أن انضمت قوافل الشعب فحولتها إلى ثورة. فعندما يتحول الثائرون عن أهدافهم، ويعاقبون الشعب الذي اختار طريق العمل، لبدء حياة جديدة، فهم أول من يصنع عدوا للثوار والثورة التي جاءت بهم. فالفرق واضح بين الثائرين الذين واجهوا رصاص الطاغية بصدورهم وهم مكشوفو الوجه وتلك الفئة الملثمة التي تفزع الجميع، وللأسف تجد من يدعم موقفها من بعض الساسة وإعلام الفلول.