أسقطت ثورة 25 يناير نظاما استبدادى عانى منه المصريون لعقود طويلة، وقد تفاءل المصريون فى الأيام الأولى عقب سقوط النظام، نظراً للتوحد والتوافق الذى كانوا عليه حينئذ بالميادين والشوارع والبيوت، وأيضاً لموقف الجيش من الثورة وهو موقف محمود حتى وإن كان متوقعا من الجيش المصرى. وقد أجمع المصريون على استبعاد رؤوس ورموز هذا النظام عن الحياة السياسية التى أفسدوها، ولكنهم اختلفوا فى كيفية التعامل معهم والقصاص منهم، ثم تحدد التوجه نحو التعامل معهم بالقانون حتى لو كانوا هم واضعيه، والاحتكام للقضاء العادى العادل لثقة المصريين فى السلطة القضائية، وقد استثنوا من ذلك قيادات الجيش لموقفهم الوطنى تجاه الثورة، ولم ينقض شهر على تنحى الرئيس السابق حتي فوجئنا بانقسام المجتمع على خارطة الطريق، وذلك قبل الاستفتاء الأول على تعديل بعض المواد الدستورية من دستور 71 فى مارس 2011، ومن هنا بدأ الانقسام المجتمعى الأول، الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً، نعم أم لا للتعديلات الدستورية، جنه أم نار، مع التيار الإسلامى أم التيار المدنى، ثم فتن طائفية فجرائم كروية وأيديولوجية سياسية وإقليمية تفرق بين أهالى المحافظات المختلفة، وبغض النظر عن نظرية المؤامرة والمؤامرات التى هى موجودة بالتأكيد، نجد أن محصلة ما وصلنا إليه خلال العامين الماضيين سواء على المستوى السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعى لا ترضى أحداً، حيث إنه على المستوى السياسى وصل الأمر إلى صراع بين قوى سياسية استثمرت كل المواقف والأحداث منذ أندلاع الثورة لتصل إلى سدة الحكم، وقد وصلت بالفعل، وحتى تحقق ذلك تحالفت مع مختلف الأطراف والقوى السياسية خلال الفترة السابقة فى مراحلها المختلفة، حسب مقتضيات الظرف بما يتفق مع أهدافها و يحقق طموحاتها، وكانت تنتقل من تحالف الى آخر معلن أو غير معلن كالنحلة بين الأزهار فبدأت بالتوافق مع المجلس العسكرى المسئول عن إدارة البلاد فى المرحلة الإنتقالية للاطمئنان على المسار، والتدخل أحياناً لتوجيه المسار على النحو الذى يحقق أهدافهم، ثم التحالف مع قوى سياسية مدنية فى مرحلة ما قبل انتخابات البرلمان السابق أيضاً لنفس الأسباب، ثم أخيراً مع التيار السلفى أثناء انعقاد البرلمان وبعد حل مجلس الشعب لإصدار بعض القوانين من ناحية، ومن ناحية أخرى مستفيدين بلهفة السلفيين على تطبيق الشريعة ووضع بعض المواد فى الدستور للتأكيد على ذلك، بما يمكنهم من التوجه لصناعة الدستور بالشكل الذى يضمن لهم التمكين من مفاصل الدولة، وهو المبرر الرئيسى للإصرار على تشكيل الجمعية التأسيسية بأغلبية تضمن لهم ذلك، وقد تم لهم ذلك بالفعل، حتى خرج مشروع الدستور، وتم فيه استحداث ووضع مواد تضفى شكلا ديموقراطيا، يوحى بشكل عام لغير العارفين بمقاصد وأهداف القوى السياسية التى لها الغلبة فى الجمعية التأسيسية أنه دستور جديد، وحتى باعترافهم بأن به بعض المواد المتحفظ عليها والتى تحتاج إلى تعديل، ولكن على الجانب الآخر ومع تكشف مقاصد وأهداف جماعة الإخوان وحزبها فى السيطرة، انتابت القوى السياسية المدنية مخاوف وهواجس وذعر من التوجه نحو تغيير الهوية المصرية تدريجياً، والعصف المتوقع بالديمقراطية والحقوق والحريات مما أدى إلى تصاعد حدة الخلاف والصراع ، وخلال هذه الفترة كانت الأحوال الاقتصادية تسوء بشكل تدريجى حتى وصلت إلى مرحلة بالغة الصعوبة والحساسية من وصول الاحتياطى النقدى لحد غير آمن، وانخفاض قيمة الجنيه المصرى الآن، فضلاً عن التضخم الملحوظ فى الفترة الأخيرة وازدياد البطالة وتراجع السياحة... إلى آخره. أما على الجانب الاجتماعى فقد انتشرت بعض الظواهر السلبية من عنف وقطع طرق ومحاصرة جميع المؤسسات والتعدى على المخالفين فى الرأى والهجوم على المحاكم ومنع القضاة من ممارسة عملهم، وزيادة الانفلات الأمنى والفوضى نتيجة تراجع هيبة الدولة واحترام القانون، وبالطبع كان ذلك بسبب تأرجح القوى السياسية المختلفة بين توجهها لاستمرار الحالة الثورية، أو الاستناد إلى الشرعية الدستورية حسب الظروف، فبعد انتخابات البرلمان سارعت القوى المستحوذة على نسب عالية فى البرلمان للاعلان بأن الشرعية أصبحت للبرلمان وليس للميدان، ثم جاءت بعض الخلافات قبيل الانتخابات الرئاسية، فعاد بعض البرلمانيين أنفسهم وقالوا إن الحكم للميدان، وتأكد ذلك خاصة بعد صدور حكم حل مجلس الشعب بالرغم من الإعلان فى غضون أيام عن الرئيس الشرعى المنتخب، وانهالت المعاول لهدم السلطة الوحيدة القائمة فى الدولة والتى تمثل العمود الفقرى الأساسية والحائط الذى يستند إليه الشعب ليحتمى به من مخاوف الظلم والبطش والطغيان، وبينما يتصاعد الهجوم على القضاء بشكل عام غير مسبوق وعلى المحكمة الدستورية وبعض أعضائها بشكل خاص، وفى الحقيقة كان الرئيس المنتخب والفريق الرئاسى أكبر داعم لهذه القوة فى تحقيق ذلك، حتى أصبح مصطلح تسييس القضاء والأحكام المسيسة، وتدخل القضاء فى السياسة، مصطلحات وألفاظا دارجة فى جميع وسائل الإعلام، وأصبح من الطبيعى لأى شخص عادى يحكم عليه القضاء بأى حكم، أن يهتف بالقضاء العادل النزيه إذا ما كان الحكم فى صالحه، أو الهتاف ضد القضاء المسيس، ووجوب تطهير القضاء إذا ما كان الحكم فى غير صالحه، وقد يصل الأمر للهجوم على المحكمة وتهديد القضاة وإهانتهم، ومع الأسف لم يدرك أولو الأمر أن محاولتهم لهدم القضاء للسيطرة واستقطاب بعض القضاة للمساعدة على تمكينهم ومساعدتهم لتحقيق أغراضهم ، يمكن أن تمر دون أن تحدث آثارا سلبية على المجتمع، إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، وأصبح أمامنا الآن خياران لا ثالث لهما، إما أن يتم التوافق بين القوى السياسية المتصارعة الآن، وسوف نتناول الصعوبات والاحتمالات لهذا السيناريو بشىء من التفصيل، والخيار الثانى هو فى الحقيقة ليس بخيار ولكنه أمر متوقع ستفرضه ظروف انهيار الوضع الاقتصادى وزيادة حدة الآثار والسلبيات الاجتماعية والتى سبق أن قدمنا لها، بصورة لا يمكن توقع حجمها وآثارها وأغلب الظن أنها ستقضى على الأخضر واليابس ولن ينجو منها أحد، ولكن المشكلة الكبرى أن الطرف المستحوذ على السلطة يحاول المناورة والتهدئة المؤقتة آملاً فى الوصول إلى السيطرة الكاملة قبل الوصول إلى نقطة الانهيار، وبالتالى هو يغامر بمقدرات الوطن ظناً منه أنه يستطيع تحقيق ذلك، وهنا تكمن المشكلة لأن الحسابات أكثر تعقيداً من قدرة استيعاب الجماعة والرئاسة سوياً، وبالتالى الخطأ فى تقدير الموقف فى هذه الظروف وفى هذا الوضع يؤدى إلى التهلكة والعودة إلى الوراء لعقود وربما لقرون ، لذا أناشد السيد الرئيس الدكتور محمد مرسى، أن يحاول ولو لمرة واحدة أن ينصت إلى الآخر، ويبتعد عن كل ما له صله بالجماعة لمدة 48 ساعة فقط، ثم يختلى بنفسه ويصلى ركعتين لوجه الله، فمعظم القرارات السابقة أفقدتنا الثقة فيمن يشاورهم وفى آليات صناعة القرار فى مؤسسة الرئاسة. لعل الله يوفقه لما فيه خير ومصلحة هذا الوطن. فإذا خلصت النوايا واتفق الجميع على إعلاء مصلحة الوطن يمكن أن ينجح السيناريو الأول والذى لا بديل فيه عن الاتفاق على 3 موضوعات محددة: 1- الاتفاق على إجراء التعديلات أو الإلغاء للمواد الدستورية محل الخلاف، وأن تكون هناك ضمانات وآليات ومرجعيات محددة، تكفل أولاً الوصول لاتفاق حول تلك المواد، وتكفل ثانياً وتضمن تحقيقها بالفعل. 2- الاتفاق على إجراء التعديلات على قانون الانتخابات بما يكفل تكافؤ الفرص وتحقيق العدل ودعم النزاهة والشفافية. 3- تشكيل حكومة ائتلافية لضمان نزاهة الانتخابات القادمة لحساسيتها وأهميتها وإمكانية تحييد السلطة التنفيذية فى حالة كونها لا تتبع فصيلا بعينه. 4- تغيير النائب العام واحترام القضاء. وفى الحقيقة لا حجة للسيد الرئيس فى عدم التجاوب مع هذه المطالب خاصة بعد اجماع كافة القوى الأخرى تقريباً على هذه المطالب وبهذه المناسبة احيى واثمن مواقف حزب النور الوطنية والشرعية، إلا لو كان الإصرار على تحقيق أهداف ومصلحة الجماعة وحزبها مقدما على صالح الوطن والشعب، وأنا أتعجب للادعاء بصعوبة تشكيل حكومة جديدة، حيث إن إعادة تشكيل الحكومة أمر وارد حدوثه لأى حكومة فى أى وقت، وحجة أن الانتخابات بعد عدة شهور قليلة، وسينتج عنها تشكيل حكومة جديدة طبقاً للدستور.. وليكن، ولا يجب أن تكون هذه عقبة فى سبيل التوافق ولم الشمل، خاصة أن فترة ما قبل الانتخابات ثم فترة الانتخابات، ثم فترة تشكيل الحكومة الجديدة ستأخذ حوالى 6 أشهر، وأيضاً يمكن الاتفاق على استمرار بعض الحقائب الوزارية وكذلك بعض المحافظين مع إمكانية تعيين نائب لكل وزير أو محافظ يقوم باختياره الجانب الآخر (غير الموالى للوزير أو المحافظ) مع تحديد اختصاصاته بتقييم ومراقبة الأعمال التنفيذية داخل الوزارة أو المحافظة وعمل تقارير بذلك، ونفس الشىء بالنسبة للوزارات والمحافظات الأخرى، وبالتالى يكون فى كل وزارة أو محافظة، إما وزير أو محافظ مختار من قبل الرئيس أو حزب الحرية والعدالة وبالتالى يكون النائب من اختيار المعارضة، أو يكون الوزير أو المحافظ من اختيار المعارضة فيكون النائب من اختيار الرئيس أو حزب الحرية والعدالة ، فيضمن الشعب الذى هو مصدر السلطات بأن تستقيم الأمور. وكلمة أخيرة للسيد الرئيس ، لقد دخلت التاريخ بالفعل، ولكن أحرص على أن يذكرك على النحو الذى تحبه وترجوه... فهل تستطيع أن تحقق لهذا الشعب الخروج الآمن من عنق الزجاجة فى هذه المرحلة... أرجو ذلك والله ولى التوفيق. استشاري التطوير المؤسسي والتنمية البشرية أمين عام حكومة الظل بحزب الوفد