شاهدت قبل بضعة شهور مسلسل »كارلوس« المكون من ثلاثة أجزاء يمتد عرضها حوالي خمس ساعات ونصف الساعة.. ولم تكن مشاهدتي له في مهرجان كان الأخير حيث جري عرضه علي سبيل الاستثناء، حيث نال استحسان النقاد الذين يعتد برأيهم.. وإنما كانت علي شاشة صغيرة بفضل تسجيله علي أسطوانة مدمجة »D. V. D« وقبل بضعة أيام، وتحت تأثير ثورة الشعب الليبي ضد نظام العقيد، وفرار وزير خارجية نظامه »موسي كوسا« إلي لندن عاصمة الضباب حيث طلب اللجوء السياسي.. وما قرأته عن الوزير الفار من أنه قبل الوزارة كان مشرفاً علي جهاز استخبارات جمهورية الخوف. وإن ذلك الجهاز كان من بين مهامه الأساسية مطاردة معارضي نظام العقيد في الخارج، حيث أجهز علي الكثير بالتصفية الجسدية.. وكان من بين من صفوا علي هذا النحو وزير الخارجية الليبي الأسبق »منصور الكخيا« الذي تم اختطافه في القاهرة خلال تسعينيات القرن العشرين، ولم يعثر علي أثر له حتي يومنا هذا، وفضلاً عن ذلك كان منوطاً بجهاز الاستخبارات هذا مهام أشد إجراماً من بينها تفجير الطائرات. أقول تحت تأثير كل ذلك وجدتني شغوفاً بمشاهدة الفيلم الذي استخرجه »أوليفيه أسايا« من مسلسله الطويل عن سيرة »كارلوس« غير العطرة.. وبداية، فالفيلم يمتد عرضه زهاء ساعتين وأربعين دقيقة فقط. وفيه ركز »أسايا« علي عملية اختطاف وزراء البترول في الدول الأعضاء بمنظمة الدول المصدرة للبترول »أوبك«، فعرضها في الفيلم يستغرق حوالي أربعين دقيقة، ولعلي لست مغالياً إذا ما جنحت إلي القول بأن مشاهد الاختطاف بدءاً من اقتحام مقر »الأوبك« بالعاصمة النمساوية فيينا، وحتي لحظة الإفراج عن باقي الوزراء المختطفين في مطار الجزائر العاصمة تعتبر، والحق يقال، نموذجاً بليغاً، قل أن يكون له مثيل في لغة السينما. وحسبما يقول التاريخ ونقلاً عن الفيلم كان »كارلوس« مبعوث الموت من قبل طاغية العراق »صدام حسين« والعقيد طاغية ليبيا لقتل وزيري بترول المملكة العربية السعودية »محمد زكي يماني« وشاه إيران. وفي يوم الواحد والعشرين من ديسمبر عام 1975 وأثناء الجلسة الأولي لوزراء بترول الدول الأعضاء بتلك المنظمة في مقرها بفيينا، اقتحم مبعوث الموت مع نفر من غلاة الإرهابيين مبني المقر، حيث الوزراء مجتمعين. وتحت وابل من الرصاص نشاهد الوزراء وعددهم أحد عشر كوكباً وقد انبطحوا أرضاً وأكثرهم لاذ بالاختباء تحت الطولات.. وبعد أن عثر »كارلوس« علي ضالته »زكي يماني« مختبئاً همس في أذنه بأن أجله علي يده قريب. إثر ذلك جري حشد الوزراء بوصفهم رهائن في طائرة ضخمة أعدها لهم »كرايسكي« مستشار النمسا، وقتذاك.. وطارت بهم إلي الجزائر العاصمة، ومنها إلي مطار طرابلس الغرب، حيث امتنع نظام العقيد عن التعاون مع المختطفين بحجة أن أحد أعضاء الوفد الليبي في المؤتمر قتل بيد »كارلوس«. ومن ثم عادت بهم الطائرة إلي مطار الجزائر حيث دارت مفاوضات بين »كارلوس« و»بوتفليقة« وزير خارجية الجزائر في ذلك الزمان.. انتهت بإطلاق سراح جميع الوزراء دون أي استثناء، مقابل عشرة ملايين من عزيز الدولارات. ورغم أن رصيد »كارلوس« من عمليات اغتيال سابقة قام بها بوصفه مبعوث الموت كان رصيداً كبيراً.. إلا أن عملية أوبك، وما صاحبها من استسلام تام لإغراء المال، أساءت إلي سمعته إساءة بالغة كان من نتائجها فقدان الثقة والاعتبار.. فأصبح شخصاً غير مرغوب فيه في بغداد، ثم في أكثر من عاصمة عربية وعندما يجد نفسه طريداً، خاصة بعد سقوط كل من سور برلين، وإمبراطورية الشر في الاتحاد السوفيتي سابقاً.. تضيق مساحة الاختيار علي نحو يضطر معه إلي اللجوء إلي الخرطوم، حيث رحب به الانقلابيون حينها. ولم تمر سوي بضعة شهور إلا وجد نفسه في طائرة مغيباً عن الوعي، مختطفاً إلي باريس، حيث جرت محاكمته عن ارتكابه خمس عشرة جناية قتل. وانتهي به الأمر محكوماً عليه بالسجن المؤبد ويقضي العقوبة حالياً في أحد سجون فرنسا. يبقي لي أن أقول: إنني بعد مشاهدة الفيلم بدت لي الجرائم التي ارتكبها »كارلوس« مقارنة بجرائم نظام العقيد تحت إشراف »موسي كوسا«.. بدت لي »لعب عيال«!