من محاذير إفشاء أسرار الآخرين: الغفلة عن تحذر العقلاء والسَّهو عن يقظة الأذكياء" لأنَّك لو استودعت شخصاً سرَّاً فإنَّه لا يأمن من أن يغلط ويفشيه، فرُبَّما يكون حازما فيزل أو جاهل فيخون، وثالثاً: إذا أفشيت سرَّك فقد ارتكبت من الغرر واستعملت الخطر، حتى قال بعض الحكماء: سرُّك من دمك فإذا تكلَّمت به فقد أرقته" فهنا قد يقول قائل: بعضنا عنده أسرار لكن لابُدَّ أن يحدث بها شخصاً آخر، مثل: شيءٌ خطيرٌ حدث له، لا بُدَّ أن يأخذ فيه رأيه حتى وهو سرٌّ، لكن لابُدَّ أن يفشيه لشخص ليعطيه فيه حلَّاً أو شيئًا، فإذاً: لا بُدَّ أن يكون الشَّخص الذي تفشي إليه على صفاتٍ مهمَّة. قال رحمه الله: "واعلم أنَّ من الأسرار ما لا يستغنى فيه عن مطالعة صديقٍ مساهمٍ، واستشارة نصيحٍ مسالمٍ، فليختر العاقل لسرِّه أميناً إن لم يجد إلى كتمه سبيلاً" إذا كان ولا بُدَّ أن تفشي أولاً تختار الأمين "وليتحرَّ في اختيار من يأتمنه عليه ويستودعه إيَّاه" يعني" حتى الأمناء الذين عندهم أمانةٌ فليس كُلُّهم يحفظون الأسرار؛ فانتق من هم أهل للأمانة، قال: "فليس كُلُّ من كان على الأموال أميناً كان على الأسرار مؤتمناً، والعفَّة عن الأموال أيسر من العفَّة عن إذاعة الأسرار" يعني" بعض النَّاس تعطيه المال فيحفظه وتعطيه السِّرَّ فلا يحفظه "لأنَّ الإنسان قد يذيع سرَّ نفسه ببادرة لسانه، وسقط كلامه، ويشحُّ باليسير من ماله حفظًا له وضناً به، فمن أجل ذلك كان أمناء الأسرار اشدُّ تعذُّراً وأقل وجوداً من أمناء الأموال، وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار؛ لأنَّ إحراز الأموال منيعةٌ" أي: أنَّ إحراز الأموال خزائنٌ وأقفالٌ منيعةٌ "وأحراز الأسرار بارزةٌ يذيعها لسانٌ ناطقٌ ويشيعها كلامٌ سابقٌ، وقال عمر بن عبد العزيز: القلوب أوعية الأسرار، والشِّفاه أقفالها والألسن مفاتيحها؛ فليحفظ كُلُّ امرئٍ مفتاح سرِّه، ومن صفات أمين السِّرِّ أن يكون ذا عقلٍ صادٍّ، ودينٍ حاجز" وعقلٍ صادٍّ: أي يصدُّ عن الشَّرِّ، ودينٍ حاجزٍ: يحجزه عن الإفشاء "ونصحٍ مبذولٍ، وودٍّ موفورٍ" فلو كان شخصاً بينك وبينه بغضاء ولا يوجد بينمكا ودٌّ فلا يحفظ السِّرَّ "وكتوماً بالطَّبع" لا بُدَّ أن يكون شخصاً طبعه الكتمان "فإنَّ هذه الأمور تمنع من الإذاعة، وتوجب حفظ الأمانة، فمن كملت فيه؛ فهو عنقاءُ مُغربٍ" هذا اسمُ طائرٍ عظيمٍ مجهولٍ، أو قيل: إنَّه كان موجوداً ثُمَّ انقرض ويُضرب به المثل للندرة، قال: "وليحذر صاحب السِّرِّ أن يودع سرَّه من يتطَّلع إليه" هذه نقطةٌ مهمَّة: لو جاءك وقال لك: أنت تخبرني وأنا أحفظه لك، أعطني سرَّاً من أسرارك، فهذا طالبٌ والطَّالب لا يُعطى "فإنَّ طالب الوديعة خائنٌ، وقيل في منثور الحكم" فهذه حكمةٌ مكونةٌ من ثلاث كلماتٍ بليغة: "لا تُنكح خاطبَ سرِّك" الخاطب: الذي يطلب أليس كذلك؟ الذي يأتي ويقول: أعطني السِّرَّ؛ فلا تُنكحه لا تعطه سرَّك "وليحذر" هذه وصيةٌ أيضاً "كثرة المستودعين لسرِّه؛ فإن كثرتهم سببُ للإذاعة لأمرين" إذا لزم الأمر فأطلِع واحداً لكن لا تُطلِع أكثر من ذلك حتى لو كانوا كُلُّهم أمناء "أولاً: اجتماع الشُّروط -هذه التي ذكرناها- في عددٍ كبير من النَّاس أمرٌ شبه مستحيل، ولا بُدَّ إذا كثر النَّاس الذين يعلمون بسرِّك من أن يكون فيهم من يخل ببعضها، ثانياً: أنَّ كُلَّ واحدٍ منهم يجد سبيلاً إلى نفي الإذاعة عن نفسه، وإحالة ذلك إلى غيره" لكي يتلافى العتب والغضب، لو استودعت ثلاثة أشخاص سرَّك ثُمَّ فشا السِّرُّ فإذا عاتبت أحدهم سيقول لست أنا، وممكن يكون من الثَّاني، والثاني يقول لست أنا، فتضيع القضية، فإذاً: إذا صار عند أكثر من أمينٍ للسِّرِّ كان ذلك سبيلاً إلى إذاعته، ونفي العتب والغضب، "ثُمَّ لو سلمت من إذاعتهم لم تسلم من إدلالهم واستطالتهم" فكُلُّ واحدٍ ممكن يُذلُّك بالسِّرِّ الذي عنده، فيقول: أنا لا زلت أكتمه وأنا لم أفشه ونحوه، فإذاً "إذا سلمت من إفشائه لا تسلم من إدلاله واستطالته عليك، قال بعض الحكماء: من أفشى سرَّه كثر عليه المتأمِّرون" صار عليه كثير أمراء يأمرونه، فإذا اختار وأرجو أن يوفَّق للاختيار واضطرَّ إلى استيداع سرَّه وليته كُفِي الاضطرار؛ وجب على المستودع له أداء الأمانة فيه بالتَّحفُّظ والتَّناسي له، حتى لا يخطر له على بالٍ، ثُمَّ يرى ذلك حرمةً يرعاها ولا يدلُّ إدلال اللِّئام" يعني: لو صار عندك سرٌّ لشخص فلا تقول: أنا حافظ سرِّك، كأنَّك تري نفسك صاحب معروفٍ عليه، انس هذا "وحُكي أنَّ رجلاً أسرَّ إلى صديقٍ له حديثاً ثُمَّ قال: أفهِمْت؟ قال: بل جهلت، قال: أحفِظت؟ قال: بل نسيت"[أدب الدنيا والدين1/387-390].