كل عام والأخوة الأقباط بخير بمناسبة عيد الميلاد المجيد.. كل عام ومصر كلها بنسيجها الواحد على قلب رجل واحد.. كل عام ووحدة البلاد الوطنية فى مزيد من التماسك والصلابة.. كل عام ودعاة الفرقة والانقسام إلى زوال.. فى ذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام، تحل علينا ذكرى المحبة والسلام والوئام بين جميع الأطياف، وفى ذكراه العطرة نستنشق عبق التاريخ فى مصر القبطية القديمة، الذى يعلمنا روح السلام والتسامح والوفاق.. ومنه نتعلم الكثير من العبر التليدة، والحكم البليغة.. وفى هذه نسترجع أطياف الحب المفقودة فى زماننا، بعدما سادت روح الغل والضغينة من حفنة مارقة عن الحق، تثير القلاقل والمشاكل داخل الوطن، ومرورًا بتاريخ مصر القبطية حتى يومنا هذا، نتعلم كيف ننهل الوطنية الحقيقية بمفهومها الواسع على مر حقب طويلة من الزمن. الكنيسة المصرية لا يمكن لأحد أن يزايد أبدًا على وطنيتها الحقيقية والدور الرائد والرائع الذى لعبته فى تاريخ مصر، منذ قدوم مرقس الرسول لنشر الديانة المسيحية فى مصر، ولا يمكن لأى عاقل أو متفحص فى هذا التاريخ أن ينكر هذا الدور الوطنى للكنيسة وما قامت به من مواقف وطنية سجلها التاريخ بأحرف من نور لزعماء الكنيسة سواء وقت الحروب أو وقت السلام الذى مرت به البلاد.. ومازالت الكنيسة تقوم بهذا الدور حتى اعتلاء قداسة البابا تواضروس الثانى كرسى البابوية ليكون بابا للإسكندرية وبطريركا للكرازة المرقسية، خلفا لمرقس الرسول.. إن مواقف الكنيسة المصرية فى التاريخ المصرى لكثيرة ومتعددة ولها من المواقف الوطنية ما لا يعد ولا يحصى.. ثم إن العلاقة الإسلامية - المسيحية بين جموع الشعب المصرى لها طبيعة خاصة جدًا، لا يمكن لأى «متخلف» أو موتور أن ينال منها أبدًا.. خاصة لو عملنا أن الأم المسلمة أرضعت من ثدييها أبناء مسيحيين وكذلك العكس. كما أن الطبيعة الجغرافية المصرية التى تضم من بينها رافد نهر النيل صنعت علاقة حميمة جدًا بين المسلمين والأقباط، وخلقت بينهم جوًا مختلفًا عن أية علاقات أخرى بين أطياف أخرى فى بلاد أخرى.. بمعنى أن العلاقة بين هذين الطابعين ، تحولت إلى علاقة واحدة وهدف واحد ومصير مشترك، إنه نسيج واحد ولا يمكن لهذا النسيج أن ينسلخ عن بعضه، وكما يقولون لا يمكن للظفر أن ينسلخ عن اللحم.. وأما يحدث الآن من مهاترات وكلام يثير الفرقة، فلا أقل من وصف هؤلاء إلا بأنهم قلة مارقة عن أى دين «سماوى» فلا الإسلام بتعاليمه السمحة ولا المسيحية بتعاليمها السمحة أيضًا، تنادى بأى خلاف أو نشر القلاقل والفتن، والذين يفتون عن «جهل» ويتطاولون على الكنيسة فهؤلاء لا يعرفون دينهم ولا يحفظون التعاليم الربانية ولا التعاليم الخلقية التى تنأى بأى عاقل أن يتطاول على أى إنسان مهما كانت ديانته «فالدين لله والوطن للجميع» سواء كان مسلمًا أو مسيحيًا أو حتى كان بوذيًا.. وعلى مر التاريخ المصرى لم تشهد البلاد مثل هذه المهاترات إلا فى زماننا هذا، وتعالت أصوات «مارقة» كما قلت تنسب نفسها إلى الدين الإسلامى وتتمسح به زاعمة أنه لا يجوز تهنئة المصريين بعضهم بعيد الميلاد المجيد.. فهؤلاء هم بذور الفتنة والذين يريدون خرابًا للوطن. وتحضرنى بهذه المناسبة واقعة سجلها كل رواة تاريخ فتح مصر الإسلامى، فعندما قدم عمرو بن العاص فاتحًا ومبعوثًا من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضى الله عن الجميع - كان الرومان الغزاة لمصر ينكلون بالشعب المصرى ويسومونه سوء العذاب وينزلون به كل صنوف الظلم والاضطهاد، لدرجة أن بابا الكنيسة المصرية فى هذا التوقيت كان رأسه مطلوباً عند الرومان لمواقفه الوطنية الخالدة والتى توارثها كل من اعتلى ويعتلى كرسى البابوية فى مصر.. ولما سأل عمرو عن البابا تبين له أنه مختف عن أعين الغزاة الرومان وأرسل عمرو رسله فى بقاع مصر كلها حتى تمكن من عودة البابا لكرسيه ونشر فى جنوده الفاتحين لمصر، تعاليم أبرزها على الإطلاق هى الوقوف مع وطنية المصريين الأقباط فى وجه الرومان الغزاة. أستغرب جدًا من هؤلاء الذين لا يعرفون تاريخهم، وينسبون إلى الإسلام ويتقولون الأقاويل ويقومون بالفتوى متمسحين بالدين الإسلامى، والدين منهم براء، ومن تصرفاتهم الحمقاء التى لا تهدف إلا لإثارة الدنيا وخلق مشاكل وتوتر البلاد نحن فى أشد الغنى عنه.. وهؤلاء الذين يتطاولون على الكنيسة وزعمائها، أو يسخرون من أعيادها، إنهم فئة حرام علينا أن ننسبها للإسلام، فالإسلام يرفض كل تصرفات هؤلاء وأفعالهم الشيطانية التى تهدف بالدرجة الأولى إلى تحويل البلاد إلى مستنقع من الفتن، وإذا تصورت هذه القلة أنها يمكن أن تنال من العلاقة القوية والوطيدة بين عنصرى الأمة المصرية فإنهم واهمون ومخبولون.. وهناك وقائع مماثلة حدثت فى تاريخ مصر لكنها كانت تموت قبل أن تبدأ.. فسحقًا لهؤلاء الذين تركوا جرحًا غائرًا فى سويداء القلب بدون مناسبة. مرة ثانية أهنئ نفسى أولاً والأخوة الأقباط بعيد الميلاد المجيد أعاده الله على مصر بالخير واليمن والبركات، ولتحيا مواقف الكنيسة الوطنية شامخة عالية فى وجه كل من تسول له نفسه أن ينال منها.