ليس هناك من يتعامل مع دولة الصين ولا يعرف أنها أكبر معقل للشيوعية فى العالم، حيث ينهج نظامها السياسى مبادئ الماركسية اللينينية، والنظرية العلمية فى جميع أمور حياتها. فاجأت الصين المجتمع الدولى بتحولها عن النظام الشيوعى، بتطبيقها نظام السوق وفقاً للخصائص الصينية، الذى حول البلاد تدريجياً إلى أكبر دولة رأسمالية. ونعلم أن سبب التحول الرئيسى فى الصين هو كثرة المجاعات التى اجتاحتها خلال فترة تمسكها بالمبادئ الشيوعية فى الإدارة، فانتشر الفساد والمحسوبية، واعتاد الناس الكسل انتظاراً أن تتولى الدولة توفير جميع أمور حياتهم، ونسوا أن قوة الدولة ما هى إلا نتاج جهد مواطنيها. بعد 30 عاماً فقط من التحول الاقتصادى، أصبحت الصين تحتل المرتبة الثانية فى مصاف القوى الكبرى، وأكبر رصيد من الاحتياطى النقدى العالمى، ونسى الناس الشيوعية التى جعلتهم يتضورون جوعا، وأفقدتهم ملايين البشر. الآن بعد عقود من نجاح التحول الاقتصادى، فاجأنا الحزب الشيوعى الصينى بتحول أخطر، مما قرره فى عهد الزعيم دينع هيساو بنغ، الذى بدأ سياسة الإصلاح والانفتاح الاقتصادى. فقد بدأ فلاسفة الحزب الشيوعى، الذين يدرسون للشباب الصينى أصول الماركسية اللينينية، التى ترفض الاعتراف بالأديان السماوية أو الأرضية، ويعتبرونها من المحرمات، وفقا لرأى لينين، بأن «الأديان أفيون الشعوب»، الآن يخططون لإعادة تدريس الأديان فى المدارس الصينية من جديد. جاءت مبادرة الفلاسفة الشيوعيين، عقب تحولات واقعية تاريخية فى نظام مازال يعتبر نفسه معقلاً للشيوعية، حيث بدأ بإعادة فتح أبواب المعابد البوذية والكنائس والمساجد أمام الجمهور. وسمح لتلك المؤسسات بالحصول على تبرعات من المواطنين فقط، لتجميلها وتطويرها ونشر أديانها عن طريق زعماء روحانيين من الداخل. وسمح لتلك المؤسسات بإنشاء مؤسسات اجتماعية وتعليمية مرتبطة بها. مع كل ذلك ظلت الدولة رسمياً ترفع شعار الماركسية اللينينية، ولمن لا يعرف، عليه أن يتصور ببساطة كيف أن الدولة لا تعترف بأية أديان، وتصف نفسها بأنها دولة علمانية، ويطلب الحزب الشيوعى من أعضائه أن يعترف أولاً بنظرية نشوء الكون وفقا لنظرية دارون للنشوء والتطور، التى لا تعترف ببداية الخلق وفقاً للمفاهيم الدينية السماوية، وألا يتبنى أى دين حتى يكون وفيا للنهج الشيوعى اللينينى، مقبلاً على المستقبل بفكر يعتمد على رؤيته العلمية بغض النظر عن تعارض تلك النظريات مع الأديان أو غيره. ظلت التحولات الاجتماعية فى الصين تسير خارج إطار الحزب الشيوعى، بشكل غير رسمى، فى ضوء سياسة المصالحة السياسية مع القوميات وأصحاب الأديان فى الصين، وأيضا تطلع الصين إلى تطوير علاقاتها مع الدول الأخرى التى تؤمن بالأديان مثل الغرب المسيحى أو الشرق الإسلامى والآسيوى البوذى والهندوسى. الآن وبعد مرور سنوات قليلة من فترة التسامح الدينى، أخبرنى الصديق «لى يننغ» أستاذ اللاهوت بجامعة بكين، وغيره من الفلاسفة الصينيين، من جامعات الشعب وشنغهاى الذين شرفت بحضورى معهم منتدى بكين 2012، بأنهم يضعون حاليا خطط مبادئ إعادة تدريس الأديان فى المدارس والجامعات. بصراحة لم أصدق نفسى عندما سمعت هذه الكلمات، فعودة الدين فى المدارس الصينية، ليس تحولاً استراتيجياً فى فكر الحزب الشيوعى فحسب، بل خطوة أخطر من التى قام بها الزعيم دينغ هيساو بنغ عندما شرع فى عام 1979، فى خلق مناطق صناعية حرة تقوم على النظام الرأسمالى، تحت شعار «لا يهم أن يكون القط أبيض أو أسود، ولكن الأهم أن يكون قادراً على اصطياد الفأر» فى إشارة إلى ضرورة أن يكون الهدف توفير المأكل للجوعى، سواء كان النظام شيوعيا أو رأسماليا. فلا أحد يمكنه أن يختلف على أن جميع البشر يريدون الغذاء الوفير والحياة الرغدة، أما الأديان فالمسألة متعددة الأهداف والخيارات، خاصة أن الصين مجتمع يضم 56 قومية عرقية، تتباين جغرافيا ولغوياً واجتماعياً، وداخل القوميات مئات الأديان المنتشرة بها منذ مئات السنين. وقد ألغى الحزب الشيوعى الاعتراف بوجود تلك الأديان، واعتبرها نوعا من التخلف الفكرى وسبباً من أسباب التناحر بين أبناء المجتمع الشيوعى الواحد، لأن كثيراً من الحروب نشبت فى الصين لأسباب عقائدية، وانتشرت العبودية فى بعض المناطق كالتبت تحت رعاية الزعامات الدينية التى ترفض توحيد تلك المناطق فى الصين الأم حتى الآن. لم يشرح الفلاسفة الصينيين فى المنتدى الأسباب التى جعلتهم يرغبون فى إعادة الدين للمدارس، بينما فى بلادنا المتدينة منذ نعومة أظافر حضاراتها، والغرب الذى قامت إمبراطورياته وغزواته للعالم على أساس دينى بحت، هناك توجهات بإبعاد الدين عن حياة المواطنين واقصائه بعيداً عن عيون الدولة والمجتمع. حرصت على مواصلة الحديث مع أصدقائى الملاحدة، ونبش القضية مع كل شاب ورجل وامرأة استطيع التواصل معهم فى الصين، فوجدت الإجابة المشتركة بينهم. النتيجة باختصار أن ذلك المجتمع الذى ينمو بسرعة البرق، وسط حالة من القلق العالمى على المستقبل، وأزمات اقتصادية حادة طالت الجميع، بينما ظل هو متماسك إلى حد كبير، وقادر على إدارة الدفة بمفرده، يعانى من مشاكل اجتماعية خطيرة، يرى أن حلها لن يكون إلا بعودة الناس إلى التدين من جديد. فرغم تحسن الحالة الاجتماعية للمواطنين إلا أن الحسد انتشر بينهم، ومع كثرة الدخول لفئة دون أخرى انتشرت الفوارق الاجتماعية، وتمايز الناس على بعضهم بإمكانات شخصية واجتماعية، وأصبح من اللازم كبح الحسد بضوابط لا يعرفها القانون. ومع زيادة الأموال انتشر الفساد المالى والإدارى بين فئة مهمة فى المجتمع، وهم أصحاب الوظائف الرسمية الذين يجدون أنفسهم ترسا مهما فى توجيه مليارات الدولارات، بينما رواتبهم الضئيلة تحول دون رفع مستواهم الاجتماعى، بما خلق عند المسئولين الجدد حالة من عدم الرضا والقناعة التى تدفعهم إلى طلب الرشوة أو التستر عليها بعيدا عن سلطة القانون. غاب الدين عن مجتمع يتحول فى كل الاتجاهات، فانهارت منظومة الأخلاق لدى الأجيال الجديدة، فها هى سياسة الطفل الواحد تجعل الأسرة الصغيرة وأسرتى الأب والأم وأحيانا الأجداد يهرعون لخدمته، فإذا ما كبر تنكر للجميع، وهرب من أعباء رعايتهم فى رحلة نهاية العمر. أقبل الشباب على تقليد الحياة الغربية المخالفة للتعاليم المسيحية أو غيرها، سعيا وراء حياة اللهو والمجون دون أن يدرك خطورة المستقبل الذى ينتظره، فأصبحت الأسرة والدولة تقامر على مستقبلها، فى يد شباب أنانى منغمس فى النزوات. تسببت المحاربة الشديدة للأديان، فى غياب مفاهيم انسانية بسيطة، لدى الأجيال الجديدة، فهم لا يعرفون طبائع غيرهم ولا المناسبات التى تفرحهم أو الكلمات التى تسىء إليهم، رغم أنهم يتقابلون كل يوم، من أصول عرقية ودينية مختلفة، فلا يدركون أن إفساد العلاقات بينهم مرجعها إلى سجل تاريخى قديم، لا يدرسونه إلا وسط الأسر المتماسكة، والتى ظلت بمنأى عن المطاردات الأمنية للحزب الشيوعى فى الماضى. ببساطة لم يعد الشباب الصينى الذى نحسده على ما وصل إليه، فى أغلبه فرحا بما فى يده من خيرات ولا مقدراً حجم المعاناة التى بذلها المجتمع والدولة ليكون فى الوضع الذى بلغه الآن، وهى أوضاع لا يحلها قانون أرضى ولا تفيد فيها سياسات رسمية رأسمالية أو شيوعية، بما جعلهم يفكرون فى المستقبل بفتح حوار جديد، يمنع الإلحاد أن يكون عائقا فى حياة المؤمنين. وللحديث بقية.