رغم «السمك.. لبن.. تمر هندي» الذي تعيشه مصر هذه الأيام.. فإنني رأيت مصر في عزاء فقيد مصر والوفد الراحل الكبير أمين فخري عبد النور.. كان السؤال - الذي لم ينطق به أي مصري رأيته أمس الأول في هذا العزاء، هو مصر إلي أين.. بل أين هي مصر.. وكان السؤال الثاني الذي لم نره علي لسان الحاضرين وإن احسست به في قلوب كل الحاضرين: ماذا بعد أن تم سلق الدستور، بل سرقة الدستور.. وكان السؤال الثالث: هل حقيقة يخطط النظام الحالي لانهيار اقتصاد مصر، مقدمة لانهيار البلد كله حتي يسهل «لهم» حكم مصر الآن.. لأن حكمها وهي راكعة اسهل «لهم» من حكمها وهي قوية.. واقفة.. صامدة.. وتقول لا.. والدليل أنه رغم «حصولهم» علي «نعم» للدستور الذي أعدوه بليل بهيم.. إلا «أنهم» يعلمون أن «نعم» هذه ملوثة بتزويرهم، التزوير الذي كان يعانون منه ويشتكون .. فلما صار لهم الأمر.. باتوا يرتكبون جريمة التزوير.. بل وأبشع مما كان يجري في السابق.. جاءوا مبشرين بنظام جديد.. فإذا بهم يستنسخون نظاماً لا يختلف عما ادعوا أنهم ثاروا عليه .. وما نحن فيه الآن.. خير دليل. ولكن سؤالاً محيراً دار في عقلي.. لماذا رحل هذا الرجل الرمز: أمين فخري عبد النور في هذا الوقت بالذات.. وهو من عاش عصوراً عديدة منذ عاصر ثورة 19 من بدايتها.. وكان قريباً من والده المجاهد الوفدي الكبير.. بل وعرف سعد زغلول عن قرب، ومن المؤكد أنه - رحمه الله - كان آخر من رأي هذا الزعيم الخالد من الذين عاصروا تلك الثورة العظيمة.. هل تعب قلبه مما رآه هذه الايام.. فلم يتحمل ان تصيب «أمه مصر» هذا الوهن.. فلم يتحمل رغم انه كان يحمل قلبا هو قلب شاب في العشرين رغم ان عمره تجاوز المائة ولم يهن أو يضعف.. رغم انه عاش حكاماً عديدين لمصر أولهم الخديو عباس حلمي الثاني الذي بدأ عهده وطنيا يحتضن الوطنيين ثم عصر السلطان حسين كامل.. وعصر السلطان أحمد فؤاد الذي صار بسبب ثورة المصريين أول ملك في عصر مصر الحديثة.. وفي عهده صار فخري عبد النور نائباً في أول برلمان ينتخبه الشعب علي مبادئ دستور 1923 الذي اعدته لجنة الثلاثين.. وكان - بل ظل صوته مجلجلاً تحت قبة هذا البرلمان - إلي أن عادت روحه إلي بارئها.. وهو تحت قبة هذا البرلمان.. ثم عاش فقيدنا الكبير عصر الملك فاروق بكل ما له وما عليه.. وشاهد ثورة يوليو ثم الرئيس الاول للجمهورية «محمد نجيب» الذي اغتالته الثورة معنوياً في منفي حددته الثورة له في بيت حرم النحاس باشا في ضاحية المرج.. ثم عصر الرئيس الثاني للجمهورية «عبد الناصر» حيث عاش الفقيد عصر القهر الحقيقي الذي سلب المصريين حريتهم وأموالهم بدعوي الدفاع عن الحريات.. وعاش الفقيد عصر الرئيس الثالث «السادات» ولمس بدايات عصر الانفتاح بعد نصر اكتوبر «البسمة الوحيدة علي وجوه المصريين» وخلاله استعاد الفقيد واسرته «بعض ثروته» إلي ان وصل إلي عصر الرئيس الرابع «مبارك» إلي أن اندلعت ثورة يناير التي لم تكتمل بعد.. وكان أمين بك عبد النور يتابع ويراقب بعقل متفتح علي الحضارة الغربية - والفرنسية بالذات - ولكن ذلك لم ينسه أصوله وجذوره المصرية الفرعونية والمسيحية.. وسماحة الاسلام حتي إنه ساهم مع شقيقه الراحل سعد بك عبد النور في انشاء مسجد كبير للمسلمين فهل هناك سماحة اكبر من ذلك.. أقول إن أمين عبد النور وكان بالفعل أميناً علي تقاليد الأمة المصرية حافظاً لكل جذورها العميقة عاصر كل ذلك وشاهده.. وكان متابعاً جيداً لكل ما شاهده علي مدار عمره المديد الذي تجاوز قرناً كاملاً.. ولكنه لم يتحمل ما رآه أخيراً.. فهل مات الرجل كمداً علي ما يراه.. إنه من اسره مصرية صميمة من أعماق مصر صممت ان تمارس العمل السياسي منذ عرفت مصر «النيابة عن الامة» فقد كان والده «فخري بك» عضواً بالبرلمان عن جرجا دائرة الاسرة في «سوهاج الان» ثم شقيقه موريس بك الذي اصبح نائباً لنفس الدائرة.. وعندما جاء نجله منير عبد النور ليرشح نفسه في دائرة الوايلي «بالقاهرة» كتبت عنه هنا اذكره بدور الاسرة تحت القبة.. واتذكر هنا ان الراحل الكبير طلب مني في انتخابات سابقة ان احاول اقناع نجله منير ان يرشح نفسه في دائرة الاسرة في جرجا.. بعد ان مثل دائرة الوايلي في برلمان سابق حتي يتواصل دور الاسرة مع جذورها العميقة في صعيد مصر.. بل قال لي انه مستعد أن يدفع لنجله نصف مليون جنيه ان استجاب لرجائه ورشح نفسه في جرجا.. ذكريات طويلة مرت في عقلي وانا جالس في سرادق العزاء في الكنيسة البطرسية بالعباسية.. واخذت اتفحص وجوه الحاضرين.. ولم اتعجب فقد كنت اري «مصر الحقيقية» التي يعرفها جيلي وجيل الراحل الكبير.. رأيت مصر التي لم تفرق بين مسلم ومسيحي.. وليس سراً أن وجدت نسبة المسلمين - في سرادق العزاء - أكثر من نسبة الاشقاء المسيحيين لأن مصر أمة واحدة.. فالرجل كان مصرياً حقيقياً.. ولا عجب أن جاءت مصر تودعه.. في هذه الظروف التي تعيشها الأمة المصرية التي كان واحداً من أفضل رجالاتها.. رحم الله أمين فخري عبد النور..