من حسنات ثورة 25 يناير ذلك الوعى الشعبى الذى حدث لأول مرة تجاه الحقوق والحريات، وضرورة المشاركة الشعبية فى صنع القرار السياسي، وإحساس كل مواطن بحقه فى التعبير عن رأيه فى دستور بلاده الذى سوف ينظم شئونه لسنوات قادمة طالت أو قصرت. فقد كانت الدساتير توضع من قبل دون هذا الحراك السياسى الذى نشهده اليوم منذ قامت الثورة المباركة، وما جرى بعدها من تعديلات دستورية، والاستفتاء عليها، والمطالبات الملحة بوضع دستور جديد، وإبطال دستور 1971م المرقع، حتى وصلنا الى هذا الدستور الذى يستفتى عليه الشعب منذ السبت الماضي. والحق أن الشعب المصرى بدأ نضالا طويلا من أجل وضع دستور ينظم شئون البلاد منذ عام 1805م، مع بدايات حكم محمد علي، الا أن هذا النضال استمر ما يزيد على 75 عاما، حتى صدر أول دستور لمصر عام 1882م، فى عهد الخديوى توفيق، كان يتكون من 53 مادة فقط، وكان أشبه بلائحة تنظم مجلس النواب وانتخاب أعضائه، وتحدد العلاقة بينه وبين مجلس النظار، ولكن ما لبثت سلطات الاحتلال الإنجليزى أن ألغت هذا الدستور. وبعد إلغائه واصل الشعب المصرى جهاده إلى أن صدر دستور 1923م، فى 19 أبريل سنة 1923م، والذى انعقد وفقه أول برلمان مصرى فى 15 مارس سنة 1924م، وظل هذا الدستور قائما إلى أن ألغى فى 22 أكتوبر سنة 1930م، ثم عاد العمل به مرة أخرى سنة 1932م، وظل معمولا به إلى أن قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952. وبعد ثورة يوليو 1952م، صدر أول إعلان دستورى فى 10 ديسمبر سنة 1952م، أعلن فيه باسم الشعب سقوط دستور سنة 1923 م، وجاء فى الإعلان «أنه أصبح لزاما أن نغير الأوضاع التى كادت تودى بالبلاد، والتى كان يساندها ذلك الدستور المليء بالثغرات»، وشُرع فى 13 يناير 1953م، تكوين لجنة لوضع مشروع دستور جديد على أن تراعى الحكومة فى أثناء تلك الفترة الانتقالية المبادئ الدستورية العامة، وفى 15 يناير سنة 1953 حددت فترة الانتقال بثلاث سنوات. وفى 10 فبراير سنة 1953 صدر إعلان دستورى ثان متضمنا أحكام الدستور المؤقت للحكم خلال فترة الانتقال، ثم ألغيت الملكية فى مصر وأعلن النظام الجمهورى فى 18 يونيو 1953. وقد تشكلت اللجنة لوضع دستور 1954 من خمسين من أبرز الشخصيات السياسية والثقافية والقضائية والعسكرية تحت قيادة رئيس الوزراء على ماهر، ولكن عندما قُدِمَت المسودة فى سنة 1954م إلى مجلس قيادة الثورة تم تجاهلها وأُهمِلَت، لأن هذا الدستور الذى كان يتكون من 203 مواد، كان يقلص سلطات عبد الناصر ويؤسس لدولة مؤسسات، ولذلك لم يعمل بهذا الدستور. وقد عثر صلاح عيسى بمعاونة كل من المستشار طارق البشرى والدكتور أحمد يوسف أحمد عميد معهد البحوث الدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، على مسودة هذا الدستور قى صندوق كان قد وضع فى أحد مخازن مكتبة المعهد عام 1999، وهى نسخة يرجح طارق البشرى أن تكون النسخة الشخصية الخاصة بالفقيه الدستورى عبد الرزاق السنهورى الذى كان عضواً بلجنة الخمسين التى وضعت الدستور. وقد استمر العمل بالإعلان الدستورى للثورة الصادر فى 1953 حتى أجرى استفتاء فى 23 يونيو 1956م، كانت نتيجته بدء العمل بدستور وضع عام 1956م. وفى عام 1958، وإثر قيام الجمهورية العربية المتحدة باتحاد سوريا ومصر، أعلن دستور الوحدة فى مارس من ذاك العام، واستمر العمل به حتى 25 مارس 1964، أى بعد سقوط الوحدة بثلاث سنوات وبضعة أشهر، عندما صدر دستور مؤقت لمصر التى بقيت تعرف رسميا باسم «الجمهورية العربية المتحدة». وبعد ترك مصر لاسم «الجمهورية العربية المتحدة» تم وضع دستور 1971 والذى جرى العمل به حتى أسقطته ثورة 25 يناير التى قضت على حكم مبارك ونظامه. وقد تعرض هذا الدستور لأربعة تعديلات، الأول فى 30 إبريل 1980م بقرار من مجلس الشعب فى جلسته المنعقدة بتاريخ 20 أبريل 1980م، وهذا التعديل شمل المادة 77 التى تعدل فيها حرف واحد، رسخ لحكم مبارك الذى دام ثلاثين عاما، حيث عدلت كلمة «لمدة أخرى» الى «لمدد أخري». أما التعديل الثانى فجاء عام 2005، والذى عرف بتعديل المادة «76»، التى جعلت اختيار رئيس الجمهورية بانتخابات مباشرة، والتى جرت على إثرها أول انتخابات رئاسية فى مصر. ثم جاء التعديل الثالث فى 26 مارس 2007م والذى استهدف التأسيس لتوريث الحكم لجمال مبارك، ووضع الأساس الدستورى لقانون الإرهاب (المادة: 179). وبعد الثورة المباركة قرر المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية تعطيل العمل بالدستور يوم 13 فبراير 2011م، ثم أجرى عليه التعديل الرابع، ممثلا فى التعديلات التى خضعت للاستفتاء عليها فى 19 مارس، وبعدها صدرت عدة إعلانات دستورية من المجلس العسكرى ثم الرئيس مرسي، حتى وصلنا الى اللجنة التأسيسية التى وضعت الدستور الذى يخضع حاليا للاستفتاء الشعبى عليه.. تلك هى رحلة الدساتير فى مصر عبر 130 عاما، بدءا من أول دستور لمصر عام 1882م وحتى وقتنا الراهن.