"نذر حرب أهلية ومواجهات دموية تدق طبولها في إقليم "التيجراي"، أحد أقاليم شمال إثيوبيا، بين الجيش الفيدرالي الإثيوبي، وقوات "التيجراي"، التابعة ل"جبهة تحرير شعب تيجراي"، الذي يحكم الإقليم، ويبلغ عدد سكانه أكثر من 5 ملايين نسمة، والأكثر تسليحًا وعتادًا حربيًا، والأكثر خبرة وتدريبًا، وله تاريخ طويل في الحروب الحدودية إبان الصراع الإثيوبي الإريتري. إعلان للطوارئ وإغلاق للمجال الجوي، وقصف جوي ومدفعية، وقطع للاتصالات والإنترنت وشبكات الكهرباء، قتلى بالعشرات، ونزوح، وسقوط مناطق داخل الإقليم واستردادها من الجبهة، وهجمات حدودية، واستيلاء على قطع وعتاد عسكري، وتدمير منصات صواريخ، ووحدات للدفاع الجوي، وإسقاط طائرات، ومناوشات وكر وفر بين قوات جبهة التيجراي وميليشيات عسكرية داعمة لها، وعناصر الجيش الفيدرالي الإثيوبي، وميليشيات موالية لإقليم الأمهرا، هكذا هو المشهد في إثيوبيا قرب إقليم (التيجراي)، حرب مكتملة الأركان، وسط مناشدات أممية وأوروبية ودولية وإقليمية لرئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد بضبط النفس، والحيلولة دون الدخول في حرب ستكون نتائجها كارثية، خصوصًا في ظل القوة العسكرية التي يمتلكها الإقليم من إرث الحرب الإثيوبية الإريترية، والتراجع عن هدفه الرئيس وهو تدمير القدرات العسكرية لتلك القوات وسحق عتادها العسكري. لماذا اندلعت الحرب؟ بحسب رئيس الوزراء الإثيوبي، أن الحرب أشعل التيجراي شرارتها الأولى بالهجوم على معسكر للجيش الفيدرالي في الإقليم "القيادة العسكرية الشمالية"، ومحاولة الاستيلاء على العتاد العسكري والمدفعية، في تحدٍ للسلطة الفيدرالية، فالتحرك من وجهة نظر أبي أحمد لاستعادة سيادة القانون والنظام الدستوري وسلطة الدولة على الإقليم وبسط الأمن وحماية حقوق الإثيوبيين في العيش في حياة كريمة، مطالبًا شعب الإقليم بعدم الانجرار وراء دعوات الحرب، وعدم التحول لوقود لها، وأن التحركات الفيدرالية هدفها حماية الشعب وتحقيق التنمية، بحسب قوله. في المقابل ينفي حاكم الإقليم إدعاءات رئيس الوزراء الإثيوبي معتبرها مبررًا لبسط وإطالة قبضته على السلطة وتقليص الحكم الذاتي للأقاليم، معتبراً قضية شعب التيجراي والحرب قضية وجود وحربًا مقدسة لتحقيق مطالب شعب الإقليم وحقوقه المنتهكة من السلطة الفيدرالية، منذ وصول رئيس الوزراء أبي أحمد للسلطة في 2018، على خلفية تظاهرات عمت البلاد قادتها قوميات عدة في مقدمتها الأورومو، التي ينتمي لها رئيس الوزراء، التي أطاحت بحكم التيجراي الذي دام 3 عقود منذ 1991 وحتى 2018. انتخابات الإقليم وتحدى السلطة الفيدرالية: كان إجراء إقليم التيجراي الانتخابات داخل الإقليم في 9 سبتمبر الماضي، بمثابة تحدٍ واضح وصريح لقرار المجلس الفيدرالي الإثيوبي، السلطة الدستورية العليا "الغرفة الثانية للبرلمان"، تمديد ولاية الحكومة المنتهية ولايتها وجميع المجالس الفيدالية والإقليمية، وتأجيل الانتخابات في ظل فيروس كورونا، وهو التأجيل الذي أشعل الساحة السياسية والاحتقاق بين القوميات، وما لبث وتم السيطرة على حالة الغضب، ولم يعترض في النهاية على قرار التأجيل من الأقاليم العشرة باستثناء حكومة إقليم التيجراي، التي رفضت القرار الصادر في أغسطس 2020، وأجرت الانتخابات بعدها بشهر واحد، في تحدٍ وإحراج لرئيس الوزراء الإثيوبي، بشأن قرار تأجيل الانتخابات، وإظهار صاحب نوبل للسلام، بأنه راغب في تمديد سلطته، والتشبث بالسلطة وإطالة قبضته وتقليص الحكم الذاتي". تحركات إقليم تيجراي لاقت ردود فعل غاضبة من السلطة الفيدرالية، التي اعتبرت الانتخابات غير دستورية وغير قانونية، وكأن لم تكن، ولوح أبي أحمد وقتها بعملية عسكرية لحسم الأمر، وحل حكومة الإقليم، وهو ما حدث منذ أيام بقرار رئيس الوزراء الإثيوبي بتشكيل قوة عسكرية لجمع السلاح والعتاد العسكري من التيجراي، وتشكيل حكومة انتقالية في الإقليم وحل الحكومة المنتخبة أخيراً ووقف التمويل لها. جاء منع حاكم إقليم التيجراي، منذ أيام قليلة، جنرال عينته الحكومة الفيدالية من تسليم مهام منصبة كقائد للمنطقة العسكرية، وعودته لأديس أبابا، واعتبار التيجراي تعيينه غير شرعي لعدم تشاور السلطة الفيدرالية مع حكومة الإقليم في تعيينه، وليس لأسباب عرقية، كانت بمثابة تحدٍ آخر للسلطة الفيدالية. أسباب الخلاف بين التيجراي وأبي أحمد: الخلاف بين رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد وإقليم التيجراي، لم يكن وليد اللحظة، ولم تكن الأزمة الدستورية القائمة بين إقليم التيجراي والحكومة الفيدرالية بسبب الانتخابات، التي تعد سابقة في تاريخ البلاد، هي السبب الرئيس للصراع الذي تسبب في اندلاع الحرب، فالصراع والخلاف بدأ منذ تولي أبي أحمد رئاسة الوزراء في أبريل 2018، عقب ثورة شعبية قادتها قوميات عدة في مقدمتها قومية الأورومو، وهي أكبر مجموعة عرقية في البلاد، وأزاحت جبهة تحرير شعب التيجراي، التي هيمنت على الحياة السياسية في البلاد على مدى 3 عقود مضت، حتى وصول أبي أحمد للسلطة، على رغم أن المنحدرين للتيجراي لا يشكلون سوى 6% من سكان البلاد، البالغ عددهم 109 ملايين نسمة. إستراتيجية الإقصاء والتهميش والتضييق: انتهج رئيس الوزراء الإثيوبي، عقب توليه السلطة، إستراتيجية وسياسة إصلاحية، رأت جبهة تحرير شعب التيجراي أنها سياسة تنتهج أسلوب الإقصاء والتهميش والتضييق على قيادات تابعة للتيجراي في الجيش والسلطة والمؤسسات الاقتصادية في البلاد، إذ قام أبي أحمد بإقصاء القيادات كافة التابعة للتيجراي من مفاصل الدولة وتطهيرها من ذلك العرق، تحت مسمى محاربة الفساد الذي دام 3 عقود، واستخدامهم ككبش فداء وشماعة للمشاكل التي تواجه البلاد، فبحسب جبهة التيجراي سياسة أبي أحمد تستهدف قوميتهم على وجه الخصوص، فلم يتم توقيف قيادات من الأحزاب الثلاثة الأخرى المشاركة في الائتلاف الحاكم سابقًا. التحالف مع العدو اللدود للتيجراي: لم تمر سوى أشهر قليلة على وصول أبي أحمد للسلطة حتى مضى في توقيع اتفاقية سلام مع أسياس أفورقي، الرئيس الإريتري، الذي تعتبره جبهة تحرير التيجراي عدوها اللدود، في الحرب الإثيوبية الإريترية التي دامت طويلاً، وتكلل التوافق الإثيوبي - الإريتري باعتراف أبي أحمد بأحقية إريتريا في منطقة بادمي المتنازع عليها، التي يقطن بها التيجراي، وتعتبرها أراضي خالصة لهم، مما عمق الخلاف بين الجانبين، ويرى التيجراي أن أبي أحمد يضحي بأراضيهم مقابل مجد شخصي وجائزة نوبل للسلام، وباع قضيتهم التاريخية وأرضهم التي ضحوا بدمائهم من أجل تحريرها. مشاركة شكلية في الائتلاف الحاكم: مع وصول أبي أحمد للسلطة سعى ضمن خطته الإصلاحية، لتشكيل إئتلاف حاكم، ورفضت جبهة تحرير التيجراي الانضمام للائتلاف الحاكم، الذي كونه أبي أحمد تحت مسمى حزب " الازدهار"، خصوصًا أن التيجراي كانت ترى أن مشاركتها ستكون شكلية داخل ذلك الائتلاف الحاكم، وأشبه بالحزب المعارض، بعدما كانت مهيمنة على الائتلاف السابق طيلة 28 عامًا، خصوصًا في ظل فقدان القدرة على التأثير في القرارات داخل الائتلاف بفعل هيمنة الأحزاب الثلاثة التي كانت جزءًا من الائتلاف السابق، وهي حزب الأورومو، وحزب الأمهرا، والحركة الديمقراطية لشعوب جنوب إثيوبيا، بخلاف الأحزاب التي أعلنت انضمامها للحزب الجديد، وهي الصومال الإثيوبي، وعفر، وغامبيلا، وهرر، وبني شنقول غومز، مما دفع التيجراي لإنهاء علاقتها بالسلطة الفيدرالية والعودة لمعقلها الرئيس والتاريخي مقلي عاصمة إقليم تيجراي. هل ستكون حربًا قصيرة أم طويلة الأمد؟ بحسب تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي حول العملية العسكرية في إقليم التيجراي بأنها محدودة لها أهداف محددة يمكن تحقيقها، إلا أن أماني أبي أحمد في تحطيم قدرات التيجراي العسكرية، في ضربة سريعة وخاطفة، وحرب قصيرة المدى، لا تتلاقى مع المعطيات على أرض الواقع، فكل المعطيات داخل إقليم التيجراي، تشير إلى أن الحرب بين القوات الفيدرالية وجبهة التيجراي عسيرة وصعبة للغاية وطويلة المدى، وتكلفتها عالية جدًا لأسباب عدة يمكن حصرها فيما يأتي: الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي ليست قوة عسكرية محدودة القدرات العسكرية، ولكنها تمتلك إرث الحرب الإثيوبية الإريترية، وقدرات عسكرية على الأرض كبيرة للغاية، فهي أقوى القوى المعارضة والأكثر تسليحًا. تملك القوى العسكرية في إقليم التيجراي عناصر من المحاربين القدامى، لديهم خبرات قتالية عالية، ومهارات القتال الحدودي، تفوق بكثير القوات الفيدرالية، فجبهة تحرير التيجراي كانت في مقدمة الحرب المدمرة الإثيوبية والإريترية بين عامي 1998 و2000.، والحرب بالنسبة لهم قضية وجود وحرب مقدسة. يضم إقليم التيجراي القاعدة العسكرية الشمالية، وهي أقوى وحدات الجيش الإثيوبي، يتجاوز عدد الجنود فيها نصف تعداد الجيش الإثيوبي الفيدرالي، ويحوي عتادًا عسكريًا وآليات ثقيلة ومعدات متطورة، وسيطرة التيجراي على الإقليم وقطع الطريق أمام القوات الفيدرالية للوصول للقاعدة الشمالية، ستقوى من قدرات التيجراي العسكرية، خصوصًا في ظل حديث الحكومة الفيدرالية أن التيجراي استولى على بعض المعدات والمركبات والدبابات من المنطقة الشمالية. يحوي إقليم التيجراي عناصر مسلحة مدربة، خلال الأعوام القليلة الماضية عكف على تدريبهم الضباط الكبار الذين فصلوا من الجيش الاتحادي خلال عملية التطهير التي قام بها أبي أحمد للتيجراي من داخل الجيش، مما دفعهم للعودة لموطنهم وتشكيل قوات وتدريبها لدعم جبهة التيجراي ضد أبي أحمد. تداول معلومات عن تبديل الكثير من العسكريين داخل مناطق القتال وفي المنطقة الشمالية الموالين للحكومة الفيدرالية، ولائهم والتمرد على الحكومة والانضمام لدعم التيجراي ضد السلطة الفيدرالية، بحسب تصريحات لحاكم إقليم التيجراي. مخاطر الحرب مع إقليم التيجراي: - إطالة أمد القتال قد يجر النزاع دولًا أخرى مثل إريتريا التي تعتبر التيجراي أكبر عدو، وكانت تحكم إبان الحرب الإثيوبية الإريترية. - التسبب في مزيد من الانقسام داخل الدولة المتعددة الأعراق والمنقسمة لولايات على أساس عرقي. - قومية التيجراي ليست الوحيدة التي لها طموحات تريد تحقيقها، فهناك قومية الأمهرة، ثاني أكبر القوميات، بعد الأورومو. - النموذج الفيدرالي الإثيوبي ينطوي على عناصر خلل هيكلية هي التي قد تدفع للانهيار والتفكك التدريجي، على رغم الحرص الأمريكي والأوروبي على تماسك إثيوبيا وعدم وقوعها في المواجهات العسكرية والتفكك، فتفكك إثيوبيا ليس مقبولًا لا إقليميًا ولا دوليًا. - قيام الحكومة الفيدرالية بحرب داخل إقليم التيجراي بشكل موسع مهما كانت الأسباب والدوافع يعزز من نزعات انفصال داخل أقاليم الدولة، ويفقد الثقة في الحكومة الفيدرالية، ومدى قيامها بتصفية القدرات العسكرية لأي إقليم حال نجاحها في نزع سلاح وقدرات التيجراي. - اتساع دائرة الحرب وإمكان دخول أقاليم أخرى، أو تقديم دعم للتيجراي بشكل غير مباشر، مثل الأمهرا، قد يدفع لبسط البيئة وتمهيدها لانقلاب عسكري محتمل من أي قومية، أو فصيل عسكري، أو مطالبات بالحكم الذاتي والانفصال. - من المحتمل إن توسعت دائرة الحرب وطالت أمدها، أن تصل للجوار في السودان، وإريتريا، وتشتعل وتيرة الحرب الحدودية، خصوصًا في المناطق المتنازع عليها في إريتريا والسودان والصومال. - استمرار وتيرة الحرب وتصاعدها يمثل تهديدًا وجوديًا للدولة الإثيوبية، ولمنطقة القرن الأفريقية بشكل عام، خصوصًا في حال تدهور السلطة الفيدرالية وفقدان القدرة على تأمين الحدود وبسط سيطرتها عليها.