تحت هذا العنوان نشرت مجلة الشئون الخارجية التي تعتبر المتحدث غير الرسمي بلسان وزارة الخارجية الأمريكية مقالا بتاريخ 2 ديسمبر لكاتبها ستيڤن كوك يعرض فيه أسباب تفجر الأوضاع مؤخرا في مصر. يقول كوك: مرة ثانية عاد المصريون الي الشوارع إلا أن تظاهراتهم هذه المرة مختلفة تماما عن تظاهراتهم في يناير وفبراير سنة 2011، عندما كان المصريون من كل الأديان والطبقات والاتجاهات السياسية مجمعين علي إسقاط الديكتاتور. الواقع أن انتصار الوحدة الوطنية في مصر قد تحول الي طريق مسدود مرير بسبب مصالح ضيقة ، فمتظاهرون يحاصرون المحكمة الدستورية العليا ليس من أجل حماية الصرح المقدس ولكن من أجل إغلاقه، وقد أعلن القضاة إضرابا مفتوحا وواجهته مجموعات المحتجين بعضها البعض كل منها يتحدي الآخر للسيطرة علي الحوار القومي، ومن الناحية المجردة فالحوار الساخن هو شيء جيد في الدول التي تسير في طريق التحول السياسي ولكن في مصر كانت نتيجة هذا الحوار هي العصف بالاستقرار، وهناك عدة تفسيرات لهذا الانفجار السياسي في مصر، فالبعض يزعم أن قرارات المجلس الأعلي للقوات المسلحة في فبراير ومارس سنة 2011 وضمها توقيت فترة الانتقال والقواعد التي تحكمها هي التي تفسر الانفجار السياسي الحالي، ويقول البعض الآخر أن سبب الانفجار هو عدم وجود دستور دائر وبرلمان بدل الذي حله المجلس الأعلي للقوات المسلحة في يونيو سنة 2012 بناء علي حكم المحكمة العليا. ويقول معتنقو هذا الرأي إن غياب القواعد والقوانين والنظم هو الذي جعل مصر تحت رحمة جنرالات غير أكفاء ثم إسلاميين فاشيين،ويخشي الليبراليون والقوي الثورية في مصر من المدنيين من الأيديولوجية الدينية للرئيس محمد مرسي، وهو أحد قادة الإخوان المسلمين، فمشروع الدستور الذي وافقت عليه اللجنة التأسيسية يتضمن تفسيرا خاصا للقانون الإسلامي. وخرجت مظاهرات ضخمة من الإخوان المسلمين يوم السبت الماضي تنادي بشعار «حماية الشريعة» من أعدائها، مما أكد مخاوف وشكوك التيارات المدنية، وهناك جزء من الحقيقة في كل هذه الآراء المتعارضة، فمن المقطوع به أن لو أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة وضع خطة معقولة لفترة الانتقال، مما كان سيجعل من السهل تطبيق نظام سياسي مستقر، فلو أن الضباط لم يقوموا بحل مجلس الشعب، أو لو أن وضع الدستور وهو القانون الأعلي للبلاد قد تم بطريقة سليمة لاختلفت الصورة تماما، ولكن الوضع المتجمد الذي وصلت له مصر تعود أسبابه لما هو أعمق من هذه التفسيرات. فقرار مرسي الشهر الماضي بمنح نفسه سلطات عليا فوق كل المحاكم وقراره بإعادة محاكمة الرئيس السابق حسني مبارك والسرعة التي تم بها إعداد مشروع الدستور الإخواني، وعدم رغبة حزب «مرسي» في الاعتراف بالحقوق المشروعة لملايين المصريين القلقين من مشروع الدستور الإخواني. كل ذلك نتيجة نظرة عالمية مختلفة للإخوان المسلمين يدرك المصريون جيدا أبعادها. فالإخوان المسلمون مثلهم في ذلك مثل الضباط الأحرار الذين استولوا علي السلطة سنة 1952، وخرج من صفوفهم جمال عبدالناصر ثم أنور السادات ثم حسني مبارك هم من يطلق عليهم عالم الاجتماع الشرهي بجامعة «ييل» چيمس سكوت وصف «أكثر الحداثين حداثة» فهذا النوع من الحداثيين يعتمد علي نخبة علمية ذات مهارات عالية ويتميز بأنه استبدادي بطبيعته. وقد يبدو هذا الوصف غريبا بالنسبة للإخوان المسلمين حيث إن معظم المراقبين ينظرون اليهم كجماعة دينية، ولكن في الحقيقة إن هذه الجماعة قد استخدمت الدين لتحقيق أهداف سياسية ذات أجندة خاصة بهم، فالزعم بأن قادة هذه الجماعة متعصبون في تطبيق أحكام الإسلام ومتفانون في ذلك هو زعم مبالغ فيه تماما، فمعظم قادة الإخوان المسلمين أطباء ومحامون وكيميائيون ومهندسون، ويعتقدون في أنفسهم أنهم الطليعة التي تستطيع دون غيرها إعادة بناء مصر، ويزعمون أن مصر في حاجة مستمرة لمزيد من التحديث، وفضلا عن ذلك فهم يعتقدون أن الشعب قد أوكل إليهم مهمة ومسئولية تحديث مصر كنتيجة لانتخابات سنة 2012، التي كانت انتخابات حرة ونزيهة بشهادة الكل وفاز الإخوان والسلفيون فيها بأغلبية كبيرة. وبسيطرة الإخوان المسلمين علي مجلس الشعب الذي تم حله ومجلس الشوري وعلي اللجنة التأسيسية لوضع الدستور وعلي مؤسسة الرئاسة نفسها، ظنت هذه الطليعة الإخوانية أنها تستطيع أن تختار لمصر طريقتها من خلال مجالس تنظيماتها الإخوانية، وكذلك لم ير الإخوان داعيا للتوافق مع القوي السياسية الأخري أو التفاوض معها علي أرضية مشتركة، وكان هذا الشعور الإخواني هو الدافع لمرسي لإصدار قراره في 12 أغسطس بطرد قيادات جهاز الأمن القومي المصري ومحاولاته بعد ذلك لوضع أنصاره في المراكز القيادية داخل أجهزة الإعلام التي تسيطر عليها الدولة، وفي حديث تليفزيوني في 29 نوفمبر وصل الأمر بمرسي أن يدعي أن إعلانه الدستوري الأخير كان تحقيقا لرغبة الشعب ولمبادئ الثورة وأنه لا يوجد هناك سبب لمناقشة قراراته أو الاعتراض عليها لأنها متخذة لخدمة مصالح مصر العليا. وكان هذا الخطأ الفادح من جانب «مرسي» وجانب الإخوان المسلمين في الحكم علي اتجاه الرأي العام مبعثه تصورهم أن كل الناس كانوا ينظرون الي نتائج الانتخابات السابقة نفس نظرة الإخوان المسلمين لها،وبمعني آخر كان «مرسي» يعتقد أن لديه ولدي حزبه تفويضا من المصريين ليحكم دون أي اعتبار لوجود معارضة ضده، وكان تشهير الإخوان المسلمين ومهاجمتهم لمن يسمون بالفلول أو بقايا النظام «المباركي» يدعم تفكير مرسي بأن الإخوان يعرفون ما هو الأصلح بالنسبة لمصر ولمواجهة مشاكلها السياسية. من السهل أن نرفض اتهامات المعارضة لمرسي بأن «مبارك الجديد» واعتبار هذه الاتهامات مجرد حملات تشويه لمرسي تقوم بها مجموعة تجيد إثارة الجماهير واللعب بمشاعرها، ومع ذلك فهذا التشهير له ما يبرره. فكل من مبارك ومرسي له نفس النظرة المتعالية علي العالم حوله وعلي الشعب الذي يحكمه، وكان ذلك سبب فشل أي إصلاح سياسي خلال حكم مبارك، وسيكون ذلك سبب خطر كبير علي مستقبل الديمقراطية تحت حكم مرسي. وإلي هنا ينتهي مقال ستيڤن كوك عن الوضع في مصر، وعندما ننظر الي ما وصلت إليه الأمور نتيجة نظرة الإخوان المسلمين بقيادة مرسي الاستعلائية ورغبتهم في الاستحواذ علي كل مفاتيح السلطة في مصر تمهيدا لتحويل الي فاشية سياسية ترفع راية الدين في وجه أي معارض لها، وتبدأ في تنفيذ مشروعها الذي أعدته عبر سنين طويلة مع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وعندما نري مشروع الدستور الإخواني الذي تم وضعه سريعا بعد منتصف الليل نري فيه هيكلا متكاملا لدولة فاشية ترفع راية الدين وتتهم معارضيها بالكفر والخروج علي الوطن، وترسخ أركان الفكر الوهابي وتقنن عمل الميليشيات المنتظرة لعصابات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب ما يرون، وعندما نراقب النشاط السياسي المحموم للنظام الحاكم لسرعة تمرير مشروع دستور الإخوان وبدء تفكيك الدولة المدنية في مصر التي استغرق بناؤها قرنين من الزمان منذ عهد محمد علي الكبير في مطلع القرن التاسع عشر عندما نري كل ما حولنا من أهوال ندرك جيدا أن الإخوان المسلمين لا يعون المدي الذي يمكن أن تصل اليه الأغلبية الكبري من المصريين من كل الأديان والطبقات للدفاع عن الدولة المدنية في مصر، ولا مدي استعداد هذه الأغلبية الكبيرة في التضحية بكل أنواعها من دماء ومال، وها نحن نري نتيجة هذا العمي السياسي الكامل للإخوان المسلمين، انشق المجتمع الي معسكرين متعادين تخيم عليه أشباح الحرب الأهلية وتخرج جماهيره بالملايين ليدافع كل من الفريقين المتعاديين عن فكره وعقيدته، جانب يتهم الآخر بالفاشية والمتاجرة بالدين، والجانب الآخر يتهم عدوه بالكفر والمروق، وتبدأ الملايين المتعادية في الصراع،ويبدأ الدم الذي بدأ الفريق الفاشي في إحراقه مستخدما ميليشياته المدربة علي العنف والقتل وحلفائه من الجحافل التي خرجت فجأة من كهوف العصور الوسطي لمحاولة إعادة مصر أكثر من ألف عام الي الوراء وطبيعي أن يحشد الجانب الآخر قوته للدفاع عن النفس، وهكذا تنزلق مصر الي حرب أهلية لا يعرف سوي المولي كيف ستنتهي. رحم الله الشاعر الأموي نصر بن سيار الذي كان حاكما للأمويين في إقليم خراسان عندما بدأ تحرك العباسييين للاستيلاء علي الدولة فأرسل الي الخليفة الغافل في دمشق هذين البيتين اللذين خلدهما التاريخ: أري خلل الرماد وميض نارٍ ويوشك أن يكون له ضرام فإن لم يطفها عقلاء قومٍ يكون وقودها جثث وهام ---- نائب رئيس حزب الوفد