الخوض في الباطل مثل الكلام عن المعاصي وأهلها، وكذلك كل كلام يَنشَأ عنه تحريك الشهوات، أو إثارة الغرائز، أو الغيبة، أو الاعتراض على الغير والطَّعن فيه، ويدخل فيه أيضًا الخوضُ في حكاية البِدَع، والمذاهب الفاسدة، وما جرى من قتال الصحابة، على وجهٍ يوهم الطَّعنَ في بعضهم، أو ترديد الشائعات التي تتناول الناس، وأنواع الباطل التي لا يمكن حصرُها؛ لكثرتها وتفننها. وأكثر الناس خَطايا يوم القيامة أكثرهم خوضًا في الباطل: فقد أخرج الطبراني عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "أعظمُ الناس خطايا يوم القيامة أكثرُهم خوضًا في الباطل"؛ (قال الحافظ العراقي: "سنده صحيح"). وقد حكى القرآن عن أهل النار؛ حيث قالوا: ﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ﴾ [المدثر: 45]، وقد نهانا ربُّ العالمين عن الجلوس مع مثل هؤلاء، وإلا أصابنا ما أصابَهم مِن عذاب، فقال تعالى: ﴿ فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ... ﴾ [النساء: 140]. وكان الربيع بن خُثيم رحمه الله يقول: "لا خير في الكلام إلا في تسع: تهليل، وتكبير، وتسبيح، وتحميد، وسؤالك من الخير، وتعوُّذك من الشر، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وقراءتك القرآن"؛ (رواه أبو نُعيم في الحلية، وابن أبي الدنيا في الصمت). وليس معنى ذلك أن نَكفَّ عن الكلام تمامًا، وإنما نَزِن الكلام بميزان الشرع؛ فكلُّ كلام لا يسخط الله تعالى، ويرضِي جلساءك فلا بأس أن تتكلَّم به، والأفضل الصمت إن لم يكن في الكلام مصلحة. يقول إبراهيم التيمي رحمه الله: "إذا أراد المؤمن أن يتكلَّم نظر؛ فإن كان له تكلَّم، وإلاَّ أمسك، والفاجر إنما لسانه رَسْلاً رَسْلاً[1]". وأُذكِّر هنا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((إن العبد ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن فيها[2]، يزلُّ بها في النار أبعد ممَّا بين المشرق والمغرب))؛ (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه). وعند البخاريِّ ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة لا يرى بها بأسًا، يهوي بها سبعين خريفًا في النار)). ويقول ابن القيم رحمه الله: "وفي اللسان آفتان عظيمَتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت، وقد يكون كلٌّ منهما أعظمَ إثمًا مِن الأخرى في وقتِها، فالساكت عن الحق شيطانٌ أخرسُ عاصٍ الله، مُراءٍ مُداهنٌ؛ إذا لم يخَف على نفسه، والمتكلِّم بالباطل شيطانٌ ناطقٌ عاصٍ لله، وأكثر الخلق منحرفٌ في كلامه وسكوته؛ فهُم بين هذين النوعين، وأهل الوسط - وهم أهل الصراط المستقيم - كَفُّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعُه في الآخرة"؛ ا.ه.