ليس كل المتظاهرين مندسين، ولا كل المعترضين علي الوقفات الاحتجاجية خونة للثورة أو متخاذلين عن نصرتها أو عملاء ممالئين للحكومة طامعين في مكاسبها. كما أن هذا المقال ليس دفاعا عن رئيس منتخب وعن حكومة شرعية لكنها قد تكون مصابة - في أحيان كثيرة - بارتعاشة اليد وضبابية الرؤية والتأخر في اتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب. كما أنه ليس أيضا دفاعا عن فصيل يدعي ملكيته للوطن أو رشده دون غيره أو وضوح الرؤية أمام عينيه دون بقية الفصائل الأخري. كما أنه ليس دفاعا عن الشرطة التي منها من قد يخطئ ومن قد يتجاوز فيصوب بندقية، أو يستفزه عمل يراه خارجا علي القانون فيتمادي في العقاب. ليس كذلك دفاعا عن المتربصين والمتحرشين والشامتين والمنتظرين للأخذ بالثأر ممن هزمهم، والإطاحة بجماعة هزمتهم أو حزب تسبب في خسارتهم أو تيار كان له تأثير كبير في إبعادهم عن موقع اتخاذ القرار. ولكنه وقوف إلي جانب الموضوعيين الذين يملكون الرؤية الصائبة مثلما يملكون الرأي الموضوعي والكلمة الشفافة حتي ولو كانوا قلّة متعففة آثرت أن تبتعد وتراقب في صمت مؤلم. أو أن تكتفي بالتعليق الصادق النزيه لو طلب منها أن تعلق أو أن تُحّكمَ فيما يحدث في شارع محمد محمود الآن كي تؤكد أن خلفه تقف قوي كثيرة ومتعددة نستثني منها ما هو متربص منتظر شامت خارج الوطن، لأننا متفقون جميعا علي أنها عدو حقيقي لنا. لكنها سوف تشهد وتتكلم عن المتناحرين داخل الوطن والذين منهم من يظن نفسه الأجدر بتسيير دفة الأمور في هذا البلد. ومن يظن نفسه الأحق لأنه الأكثر جماهيرية وقدرة علي تجميع أصوات من يهتفون له وتحريك من يريدون تنصيبه ورفعه إلي كرسي الرئاسة لو أتيحت له الفرصة وأعيدت الانتخابات التي يعمل جاهداً مع غيره علي إعادتها كل حسب مصالحه الحالية والمؤجلة ومكاسبه المنتظرة والمتوقعة والتي من أجلها – مرحلياً فقط – يتحدون حتي إذا نجحوا في الإطاحة بالحكومة الحالية انقلبوا علي بعضهم وعادوا إلي عراك أشرس وتناحر أشد وانقسام يشهد بتفتتهم جميعا وتشرذمهم وضعفهم الذي سوف ينكشف بما يشبه الفضيحة حينما يصعب بل يتعذر توحيدهم علي رأي أو تجميعهم علي قرار حتي ولو كانوا الآن يلتقون ناشطين في تجميع حطب الحريق للحكومة القائمة ورئيسها الذي تعبوا وتفانوا وأخلصوا في تشويه صورته وتصغير جهده وتضئيل قامة أي إنجاز يحسبه له المراقب العاقل والمشاهد النزيه، بعد أن نجحوا في تحميل كل أعباء ومصائب السنين الثلاثين الفاسدة الماضية ووضعها علي رأسه وتحميله مسئوليتها. خاصة وقد تتالت الكوارث وتتابعت المصائب مرة واحدة كي تنفجر جميعها، بدءا من مجزرة الجنود المصريين في سيناء والتي لم تنكشف أو تكشف أسبابها ومرتكبيها وملابساتها الكاملة بعد. مرورا بانقلاب متكرر لسيارات جنود الأمن المركزي المساكين . ثم ضحايا مزلقان السكة الحديد وشهدائه من الأبرار إلي الغزو الإسرائيلي الإجرامي لغزة وأبنائها الذين لا يتوقع أن تكف دماؤهم قريبا عن المسيل. وفيما يتعلق بمأساة شارع محمد محمود وأسميها مأساة لأن لها ضحايا ومصابين. ولأن شهيدها الأول هو جابر - جيكا الصغير المتلألئ الذي كان يتدفق وطنية بأعوامه السبعة عشر والذي سبق وهتف في التحرير تأييدا للرئيس محمد مرسي ثم رقص علي إيقاعات تدق فرحا وابتهاجا بانتصاره ثم تبعه شهداء صغار آخرون، لا أظن ولا يعقل أحد مطلقا أنهم خرجوا في مظاهرة مع زملائهم الأنقياء كي يخربوا أو يدمروا أو يخونوا. بل كي يعاودوا الهتاف للخبز والحرية والعدل دون أن يعرفوا – أو ربما يتوقعوا – أن يندس بينهم الخونة والمستأجرون والبلطجية والمجرمون من حاملي السيوف والمطاوي وزجاجات المولوتوف والحجارة الذين صمموا علي اقتحام وزارة الداخلية ورتبوا حرق المدرسة التاريخية الأثرية. والذين يأتون للشارع كل ليلة في الثالثة صباحا علي دراجات نارية دون أرقام وهم ملثمون كما شهدت بذلك السيدة «ماجدة موسي» إحدي ساكنات نفس الشارع في حديثها المروع الذي أدلت به إلي الإعلامي معتز الدمرداش مساء الأربعاء 21/11/2012 الماضي في لوعة ورعب واستغاثة مما يحدث وما قد يجيء!. فمن إذن يقف خلف كل ذلك الهول الذي يمكن يتفاقم - والذي لن يتركوه أو يكفوا عنه حتي يتحول إلي حريق كبير هو أشد الحرائق جميعها بعد أن جمعوا له كل ما يمكنهم جمعه من الحطب ومن المواد المشتعلة والقابلة للاشتعال - إن لم يكونوا هم كل من يريدون القفز إلي السلطة. وكل من يريدون الانتكاسة بالثورة. وكل من يخشون أن تصيب مكاسبهم طلقات المحاسبة ومن يخافون أن تشير إليهم أصابع الاتهام بالثراء الحرام. علاوة علي من تلوثت أيديهم بالسرقة أو اكتظت صحيفتهم بجرائم الاتهام بالتهرب من الضرائب أو بالاستيلاء علي الأرض أو باستغلال النفوذ أو بتشجيع الفساد وتبني الفاسدين والتستر عليهم. ومرة أخري لا أقول ذلك دفاعا عن حكومة ولا تأييدا متحزّبا لرئيس، بل عن رؤية أعمق لما هو وراء ما يحدث. وخوف وخشية مما قد يجيء من كوارث لا نستطيع لها دفعا. وهي رؤية يشاركني فيها كثير من العقلاء. لأنها خالية من الحقد. بريئة من الكراهية. منزهة عن التعصب. وإلا فهل كان من الممكن أن يحدث كل ما حدث في وقفة شارع محمد محمود فيسقط شهيد هو صبي متحمس بريء يليه شهداء مماثلون. ويصاب لواء شرطة مشهود له بالإخلاص والأمانة مع بعض من رجاله مثلما يروّع سكان الشارع وغيرهم من المواطنين؟.. هل كان من الممكن أو من المعقول أن يحدث ذلك لو أن كل ذلك الشباب المتحمس الثائر الذي خرج «سلمياً وحضارياً» يحيي ذكري رفاقه المستشهدين ويطالب باستكمال تحقيق مطالب الثورة قد وقفوا وحدهم - يهتفون وينشدون ويغنون بل ويطالبون رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بل وكل المسئولين بالحضور إليهم والاستماع لأصواته - دون أن يندس في وسطهم من اندسوا ومن دفعت لهم الأجور مقدما وغسلت لهم الأدمغة؟ إن لم تصدقوا فأعيدوا إذن مشاهدتهم في تسجيلات اليوتيوب أو تتبعوهم بالمشاهدة علي الشاشات التلفيزيونية وأنصتوا إلي لغتتهم ولهجتهم وميمحهم – رغم أنهم كلهم جميعا ضحايا للفقر والقهر والجهل والمرض - كي تتذكروا شراذم ميدان التحرير التي قبعت فيه طويلاً قبل أن يخلي منهم في ساعات عندما أريد ذلك بإخلاص. وتذكروا أيضا – بالمقارنة - وجوه وأشكال ولغة وألفاظ من سبق وتجمعوا أمام السفارة السعودية والأمريكية وتجاوزوا وخربوا بعد أن اندسوا بين شباب مصر الطاهرين الثائرين المتحمسين الذين سبقوا بالثورة ويعرفون حتي الآن كيف يعبرون عن رأيهم بالتظاهر السلمي وبالاحتجاج النبيل. وستثبت التحقيقات صدق ما نقول.