صلاح يتحدث عن.. التتويج بالدوري الإنجليزي.. البقاء في ليفربول.. وفرص الفوز بالكرة الذهبية    الدستورية تلزم الشركات السياحية بزيادة رؤوس أموالها خلال مدة محددة    رئيس الوزراء: مصر لديها 14 مطورًا صناعيًا في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس    النائبة عايدة نصيف: مشروع «الإيجار القديم» يهدد السلم الاجتماعي ويتعارض مع بعض المبادئ الدستورية    محافظ الجيزة: استلام 66 ألف طن قمح محلي بمراكز التوريد والتخزين    متحفا الحضارة والمصرى يشاركان للمرة الأولى فى مؤتمر التراخيص الآسيوى الدولى بهونج كونج    مصر تجدد رفض استخدام إسرائيل «سلاح التجويع» ضد سكان غزة    قوات الدفاع الشعبي والعسكري تواصل تنفيذ أنشطة دعم المجتمع المدني.. صور    أمن المنافذ يضبط 45 قضية متنوعة خلال 24 ساعة    جنايات المنصورة...تأجيل قضية مذبحة المعصرة لجلسة 14 مايو    خلال شهر.. تحرير 2054 محضرا خلال حملات تموينية بسوهاج    جامعة أسيوط تُشارك في ورشة عمل فرنكوفونية لدعم النشر العلمي باللغة الفرنسية بالإسكندرية    مهرجان SITFY-POLAND للمونودراما يعلن أسماء لجنة التحكيم    تنظيم ندوة «صورة الطفل في الدراما المصرية» بالمجلس الأعلى للثقافة    4 أركان و7 واجبات.. كل ما تريد معرفته عن سنن الحج    هيئة التأمين الصحي الشامل توقع اتفاقًا مع جامعة قناة السويس    الدستورية العليا: إجراءات تأديب القضاة ليست اتهامًا ولا تعوق المحاكمة    تعرف على مواعيد مباريات الزمالك المقبلة في الدوري المصري.. البداية أمام بيراميدز    الآن.. جدول امتحانات الشهادة الإبتدائية الأزهرية 2025 آخر العام    أسعار البلح السيوي بمحلات وأسواق مطروح اليوم السبت 10- 5-2025.. تبدأ من 25 جنيها    الإحصاء :معدل التضخم الشهري 1.3% لشهر إبريل 2025    أنشأ محطة بث تليفزيوني.. سقوط عصابة القنوات المشفرة في المنوفية    «المشاط»: اللجنة المصرية السويسرية منصة لدفع العلاقات الاقتصادية بين البلدين    في احتفالية يوم الطبيب المصري.. تكريم 31 طبيبًا وطبيبة من الأطباء المثاليين    بينهم سيدة.. الجيش الإسرائيلي يعتقل 8 فلسطينيين بالضفة الغربية    المتحف المصري بالتحرير ومتحف الحضارة يشاركان في مؤتمر التراخيص الآسيوي    المتحف المصري الكبير يستقبل فخامة رئيس جمهورية جزر القمر ووزيرة التعليم والثقافة اليابانية    بعد صراع مع المرض .. وفاة زوجة الإعلامي محمد مصطفى شردي والجنازة بعد ظهر اليوم    فيلم سيكو سيكو يقترب من حصد 166 مليون جنيه إيرادات    إيطاليا تطالب إسرائيل بإدخال المساعدات إلى غزة    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : الكلام وحده لايكفي !?    زلزال بقوة 5.3 درجة يهز عدة مناطق في باكستان (تفاصيل)    عاجل - لماذا استدعى العراق قواته من بكستان؟    القناة 12 العبرية: شركة ITA الإيطالية تمدد تعليق رحلاتها من وإلى إسرائيل حتى 19 مايو    مصر تستضيف الجمعية العمومية للاتحاد العربي للمحاربين القدماء وضحايا الحرب    حريق هائل في 5 منازل ببني سويف    رئيس الوزراء يتفقد مشروعي «رووتس» و«سكاي للموانيء» بمنطقة شرق بورسعيد    اليوم.. انطلاق الجولة 35 ببطولة دوري المحترفين    وفاه زوجة الإعلامي محمد مصطفى شردي بعد صراع مع المرض    «رئيس الرعاية الصحية»: منصة وطنية للتشخيص عن بعد باستخدام الذكاء الاصطناعي قريبا    صرف مكافأة استثنائية للعاملين بمستشفيات جامعة القاهرة    بخطوات سهلة واقتصادية.. طريقة تحضير الناجتس    خبر في الجول - زيزو يحضر جلسة التحقيق في الزمالك    ثلاثية بصرية.. معرض يوثق الهوية البصرية للإسكندرية بأسبوع القاهرة للصورة    صحيفة عبرية: ترامب قد يعترف بدولة فلسطين خلال قمة السعودية المقبلة    «الصحة»: تدريب 5 آلاف ممرض.. وتنفيذ زيارات ميدانية ب7 محافظات لتطوير خدمات التمريض    حاجة الأمة إلى رجل الدولة    الرمادي يعقد جلسة مع لاعبي الزمالك قبل مواجهة بيراميدز    هل أصدرت الرابطة قرارا بتأجيل مباراة القمة 48 ساعة؟.. ناقد رياضي يكشف مفاجأة (فيديو)    تفاصيل مفاوضات الأهلي مع جارسيا بيمنتا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 10-5-2025 في محافظة قنا    الصحة: تدريب أكثر من 5 آلاف ممرض.. وتنفيذ زيارات ميدانية ب7 محافظات لتطوير الخدمات    اليوم.. محاكمة 9 متهمين بخلية "ولاية داعش الدلتا"    موعد مباراة الاتحاد السكندري ضد غزل المحلة في دوري نايل والقنوات الناقلة    حبس لص المساكن بالخليفة    الرئيس السيسي يعود إلى أرض الوطن بعد مشاركته في احتفالات عيد النصر في موسكو    هل تجوز صلاة الرجل ب"الفانلة" بسبب ارتفاع الحرارة؟.. الإفتاء توضح    السيطرة على حريق داخل عصارة عسل أسود بقنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المستشار لبيب حليم لبيب يكتب: سياسة الثعالب
نشر في الوفد يوم 22 - 07 - 2020


مصرع «النقراشى» بعد معاركه الضارية ضد الإنجليز
الوفد يفوز بأغلبية ساحقة ويعود إلى مقاعد الحكم
إلغاء معاهدة 1936 بعد استمرار مماطلات الاحتلال
«النحاس» يعلن للمصريين تغيير بعض مواد الدستور
استقال إسماعيل صدقى، وقبل الملك الاستقالة، وأسند جلالته الوزارة إلى محمود فهمى النقراشى، الذى قبل الحكم وباشره بمؤازرة زملائه الدستوريين، وبدأ الجو السياسى يهدأ قليلاً، وبدأت الاستعدادات الجديدة فى المعسكر الجديد تتخذ أهبتها للنضال القادم، وتراجع إسماعيل صدقى، وترك الميدان الصاخب لا إلى عزلة وتقاعد، كان الغاصب يرجوهما، بل إلى جهاد جديد حر لا تحده قيود الوظيفة وتقاليدها، ولا ترسم خطوطه ومعالمه سياسة معينة، أو شروط معاهدة جائرة.
تراجع إسماعيل صدقى، وقد ضاق صدره بألاعيب وحيل العدو، وقد أحب أن يفسح الطريق لغيره، ويمهد له مجال العمل والتجربة، ولم ينس فى تراجعه أن يبعد المقبلين على استئناف الجهاد بالخفايا، وينير لهم طريق الأسرار المتغلقة فألقى قنبلته المدمرة، فكانت على الإنجليز ناراً وعلى زملاء الأمس وشركاء الجهاد نوراً يهدى سواء السبيل ويحذرهم أساليب ثعالب السياسة ومدوراتهم وتسويفهم ليعيدوا - وبعد مرور هاتيك السنين - القصة السمجة الملول مرة أخرى من بدايتها!
وجاء النقراشى.. والنقراشى رجل فوق معاصرته لقصة الجهاد ضد الغاصبين من بدايتها الأولى تحت لواء سعد زغلول - قطب من أقطاب المفاوضة الأخيرة - وعضو له قيمة فى هيئتها، فعرف أسرارها، ووقف على خفاياها، وأسأمه أن تطول فصولها، وتتكرر وأن تأخذ مع الشخوص التى تتغير على مسرح السياسة لبوساً وأثواباً جديدة تخفى القديم المعروف.
النقراشى
والنقراشى من مطالعتى للتاريخ المصرى أقول إنه رجل صراحة وجد، ولا يحب الأساليب العتيقة البالية التى يتبعها الإنجليز، ويكره المماطلة، ولا يحب التسويف فى حق يؤمن به، ثم أنه بعد هذا صاحب خلق، يبغض سياسة الثعالب، وينفر منها، ويرى فيها جرائم بشعة يرتكبها الرجعيون فى حقوق الأمم الصغيرة المهضومة الحقوق!
وأحب النقراشى - اعتماداً على التجارب السابقة ولكى يتفادى نقض الإنجليز فى غدهم لوعود ومواثيق الأمس - أن يتبع سياسة صريحة، وأن يسلك طريقاً واضح المعالم كره الثعلب ولوجه وعاد يداور الرجل الصريح ويحاوره!
وكره النقراشى وقد أعيته مع الماكر الغاصب شتى الحيل - أن يساير الإنجليز ولم يجد إزاء غموض سياستهم، وتعنتهم وإصرارهم على موقف الضلال والاستمساك بالباطل إلا أن يلجأ إلى ساحة العدالة الدولية وحق مصر الغالية فى يمينه ليوقظ بصوته الداوى المجلجل الضمير العالمى الغارق فى وهدة الماديات!
ووجدها إسماعيل صدقى فرصة طيبة مواتية قد تأتى بخير مرجو، وقد تحقق بعض آمال المجاهدين وتنقل الوطن من محيط محدود إلى آخر أكثر سعة وأرحب أفقاً.. فوقف إلى جانب زميل الأمس يشجعه ويبارك خطواته.
ودوى صوت النقراشى فى أروقة مجلس الأمة، وراحت حججه الدامغة تترى، ووقفت وراءه مصر التى حطمت القيد وكرهت الاحتلال وظلاله البغيضة، ولكن كان من العبث أن نجد من يقف إلى جانبنا أو نصيراً يضم صوته إلينا من الأبطال الزائفين الذين طالما تباكوا على العدالة، ونعوها لأنهم يرونها حقاً لهم حراماً على الآخرين.
وهكذا علت راية المادية اللعينة، وخذل «أنصار السلام» و«بناة الأمن» من أعضاء مجلس الأمن قضية الوادى العادلة، ووصموا جبين العدالة الدولية بميسم التحيز والتحزب والعار الأبدى الذى لن ينساه التاريخ!
وعاد النقراشى من رحلة جهاده فى الخارج ليجد المصريين قد ازدادوا تمسكاً بحقوقهم، وهانت لديهم التضحيات فى سبيل تحقيقها فراح يفكر فى وسيلة جديدة ينال بها حقوق مصر فى إجلاء الغاصبين عنها وتوحيد شطرى وادى النيل تحت تاج مصر.
فى الماضى لوحوا بالمفاوضات، وأطلق الغاصبون أبواقهم تردد مقاطعتها، وتصامم الجميع عن النغم الناشز، وسار النقراشى فى طريق جديد متبعاً سياسة آمن بها، إلا أنها أثارت بعض معارضيه.
ومرة أخرى، ولم تجف بعد دماء الشهيد أحمد باشا ماهر، حتى سقط فى ميدان الفداء زميل صباه ورفيق جهاده وحنو روحه محمود فهمى النقراشى.
ونكس التاريخ رأسه فى أسى وتحسر، وهو يشهد أبطال الفداء ومغاوير الثورة الكبرى، وحملة لواء الجهاد بالأمس وقادته اليوم تمتد إليهم أيدى حفنة من إخوانهم فى الوطن والدين فتفتك بهم وتسكت أصواتهم المدوية الطنانة التى طالما روعت وهزت وأخافت وأرجفت قلوب الإنجليز.
راح النقراشى شهيداً فى حب مصر، وحمل إبراهيم عبدالهادى اللواء من بعده، وأخذ مكان القائد الصريح، وسار بسفينة الحوادث وسط زعازع وعواصف فكرية، وإذا به يقف ذات صباح أمام تغيير سياسى شامل لطاقم الحكم جاءت على أثره وزارة حسين سرى القومية فأجرت انتخابات فاز فيها حزب الوفد بأغلبية ساحقة عادت به إلى
مقاعد الحكم مرة أخرى.
حزب الوفد!
وتنفس ثعلب السياسة الصعداء، وظن فى مقدم حزب الوفد فرصة جديدة لمحاولات وعروض جديدة يتقدم بها، خاصة وقد كان الوفد خصم إسماعيل صدقى ومعاهدته، ومعارض إبرامها الأول والأخير، وأبى دهاؤه إلا أن يعيد القصة من بدايتها مرة ثانية، وأن يشيع فى سماء الوادى المتحفز المشوق إلى تحقيق هدف الوحدة الشاملة والجلاء الناجز.. أصداء اللحن العتيق الذى أبلته السنون ومجت سماعه آذان كافة المصريين.
وظن الوفد.. وقد عارض معاهدة صدقى - بيفين، وعابها ودعا إلى رفضها لأنها جرت على إسماعيل صدقى الذى لا يمثل الأمة، وتسنده أحزاب ضعيفة، ظن الوفد أن الإنجليز سيكونون أسخياء معه، ويقدمون له شروط تحالف سخى يحقق أمل المصريين جميعاً ويتوج جهادهم الطويل بتحقيق حلم الجلاء عن الوادى، وتوحيد شطريه، فقبل المفاوضة.
ودارت ساقية المفاوضات من جديد، ومدت مصر فى صمت ذراعها لحقنة المورفين، وسرعان ما سرى المخدر القديم، ومع سريانه راحت تواتينا أحلام وأوهام وآمال!
وظلت الساقية فى دورانها، ولكن فى صمت ودون جلبة أو ضوضاء، وعادت إنجلترا تعرض ومصر تعارض!
وسارت المفاوضات وتعثرت، ثم سارت مرة أخرى لتتعثر من جديد، وكان الغريب فيها دهشة الغاصب من استمساك صاحب الحق بحقه!
ومر الوقت وما أسفر الوجه المجهول عن غموضه، وقيل فى شأن المحادثات ما قيل، وتغير السفير، ومات بيفين، وما تغيرت سياسة من جاء بعده.
وهاج الرأى العام بعد أن تبللت الخواطر، وبدأ الناس يذكرون إسماعيل صدقى، ويترحمون على معاهدته التى حددت الجلاء وجعلت نهايته عام 1949.
وأحس المفاوض المصرى أن الثعلب يريد إطالة الوقت دون جدوى، وأن عام 1950 قد قارب على الانتهاء وما أقر شرط ولا أبرم تحالف ولا تم جلاء.
ومرة أخرى تحسر الناس على الفرصة التى ضاعت من جراء محاربة معاهدة صدقى - بيفين، وتبين لهم أن جنوح السياسة الحزبية شر وبلاء، ووجد المفاوض المصرى أنه أمام مشكلة معقدة، فهدد بقطع المفاوضات وإلغاء المعاهدة التى مرت السنون وما استطاع المفاوضون على اختلاف حزبياتهم وميولهم أن يعدلوها أو يبدلوا شروطها أو يصلوا بها إلى نهاية يرجوها جميع المصريين.
وأخيراً وأمام استمساك الغاصب بباطله لم يجد المفاوض المصرى إلا الإقدام على عمل حاسم جرىء، وهو قطع المفاوضات وإلغاء معاهدة سنة 1936!
ومن فوق منبر مجلس النواب وقف مصطفى النحاس ليقول أنه من أجل مصر وقع معاهدة سنة 1936، ومن أجل مصر يدعو نواب البلاد إلى إلغائها.
وألغت مصر المعاهدة، وشيعتها غير مأسوف عليها، وفى جنازتها دفنت أيضاً الاتفاقية التى أبرمتها مصر سنة 1899 الخاصة بالسودان، وتنفست مصر الصعداء وأنصت الشعب إلى مصطفى النحاس وهو يتلو مراسيم خطيرة بتعديل بعض مواد الدستور وإعلان الفاروق ملكاً على مصر والسودان!
الرجل الغاضب!
وإن كنت قد سايرت الحوادث فى سرعة فإنه لا يمكننى أن أنسى تسجيل الأحداث الجسام والتطورات العديدة التى مرت بقضية الوادى حتى انتهت فى أكتوبر سنة 1951 بإعلان حكومة الوفد قطع المفاوضات، وإلغاء معاهدة 1936 واتفاقيتى سنة 1899 الخاصتين بالحكم الثنائى فى السودان.
والآن وبعد أن سجلت أعود إلى المرحلة الأولى فى عهد الوزارة النقراشية التى جاءت بعد استقالة إسماعيل صدقى فى أواخر سنة 1946 السنة التى ولدت فيها!
لقد ترك الرجل الغاضب لحق وطنه مهام الحكم لأنه رأى أنه من اللازم أن يتولى الحكم فى مثل هذه الظروف التى صادفته يومئذ من يكون أقدر منه على الاستعانة بالرأى العام ممثلاً فى الأحزاب صاحبة الأغلبية التى قد تستطيع عن طريق أعوانها ودعاياتها الحزبية أن تتفادى ما تعرض له إسماعيل صدقى من معارضة وتأييد، ثم تخلٍ وفشل، ومؤامرات داخلية وأخرى خارجية، تثيرها مرة دوائر حكومة السودان وحلفاؤها من أذناب الإنجليز أصحاب المطامع، ومرة أخرى وزارة الخارجية البريطانية التى أثار ذعرها أن تقر فى إخلاص ووفاء والتزام بالعهد ما سبق وسلمت به لإسماعيل صدقى المفاوض المصرى.
ولقد كان النقراشى دعامة قوية من دعائم
توطيد وزارة صدقى، كما كان عضواً بارزاً فى هيئة المفاوضات، وكان أيضاً رئيس الحزب المشترك فى تحمل تبعات الحكم حتى لقد وقف فى البرلمان عقب حل هيئة المفاوضات وعند تقرير الثقة بالوزارة، يدافع عن مشروع صدقى - بيفين فى بلاغة وفى يقين مبيناً النواحى العديدة التى تثبت وفى صراحة أنه مشروع يتفق مع مصالح مصر ومطالبها.
وكان طبيعياً وذاك مركز الرئيس الجديد من الوزارة الصدقية ومشروعاتها أن يكون على علم بالدقائق، خبيرا بالأسرار والخفايا، ولذا لم يكن عجباً أن يظل جو المفاوضات على حالة من الركود والقلق، فثارت الأقاويل، وكثرت الشائعات، وقيل فى المركز الوزارى ما قيل من حدس وتخمين واستنتاجات!
وذكرت دوائر لندن - فى ذلك الوقت - بعد استدعاء السفير إلى العاصمة البريطانية أن صلابة النقراشى قد تؤثر فى مركز وزارته، بل قد تعصف بالعهد الحاضر كلية، وذكرت غير ذلك من أمور وغرائب كان مبناها الخيال!
ثم فوجئ الناس ذات يوم بحديث يتداوله العامة، لقد قيل أن مصر قدمت مشروعاً للسودنة لتقطع على الإنجليز خط الرجعة وتلجم أفواه دعاتهم بحجارة تسكتهم وتقنعهم أن مصر لا مطمع إقليميا لها فى السودان، وأنها حين تفاوض باسمه، وتصر على أن تشملها وإياه وحدة خالدة فى ظل التاج المصرى فإنما تفعل ذلك لتعد الأشقاء لتسلم مقاليد الأمور فى بلادهم، وتجعلهم يؤمنون بأن الرابطة الطبيعية التى أوجدها الله، وأقرتها الطبيعة لا يمكن أن تؤثر فيها وعود ولا آمال، ولا عروض بعيدة التحقيق!
وانتقل الحديث من ناد إلى ناد، ومن محفل إلى آخر حتى قيل أخيراً أن الحديث فى مشروع السودنة قد انتقل إلى المجلس النيابى وتداولته لجنة الشئون الخارجية لمجلس الشيوخ.
بين الجدران!
وكان طبيعياً بعد ذلك وإسماعيل صدقى عضو بارز فى هذه اللجنة أن يسارع رجال الصحافة إليه يستوضحون الأمر، فقال: الواقع أنا الذى نقلت المعركة من قاعة المجلس إلى لجنة الخارجية لنتكلم بين أربعة جدران فى هدوء وصراحة، لأننا درجنا فى الزمن الأخير على أن نتخذ من منبر البرلمان ميداناً للتنافس فى الأقوال البراقة والعبارات التى تفيض حماسة، وكأننا نخاطب الجماهير لننفذ إلى قلوبهم، ولا نناقش المسائل فى ضوء الأمر الواقع ونقيسها بمقاييس الحكمة والعقل.
وقد كان اجتماعنا بين الجدران الأربعة سبيلاً إلى ذلك، فبعد أن كنت تسمع فى الخارج صيحات الحماسة والاستحسان لوضع دستور للسودان بدأنا ندرك أن وضع هذا الدستور يستلزم الأداة التى تشرف على تطبيقه، وما دمنا معشر المصريين لا نملك هذه الأداة فلن يكون من ورائه طائل لأن الذى سينفذه بالطبع هم الإنجليز ما دام الموقف بيننا وبينهم فى مسألة السودان معلقاً!
وأضاف: قد تبينت لجنة الخارجية أنه إذا لم تكن هناك معاهدة فلن يمكن الاستفادة من وضع دستور للسودان، لأن الإنجليز هم الذين سيطبقونه بعيداً عنا، والغايب مالوش نايب، هذا ما قلته لزملائى بوجود رئيس الحكومة ولمست أنهم غير بعيدين عن قبوله.
هكذا كان إسماعيل صدقى - كما روى التاريخ - يقظاً متنبهاً ملماً بكل صغيرة وكبيرة، يأبى أن تفوته فى سبيل خدمة بلاده فرصة، عاملاً على أن يبصر المسئولين بعواقب الأمور ويفتح لهم مستغلقها ويكشف بنظرته البعيدة ستور الغوامض!
وعندما يتحدث إسماعيل صدقى عن مشروع السودنة فهو يحدثك حديث الخبير الذى يرشد ويبين العيوب، لا فى نقد وتجريح، بل فى رغبة تدفع إلى الإرشاد وتبيان الصواب وأنه وبعد أن يبين ما بين السطور يعود فيعلن موافقته التامة على مشروع السودنة، ولكنه وبعد إعلان هذه الموافقة يعود فى لهجته الصائبة لينقد المشروع فى جرأة تقلل من أهميته إذ يقول عنه أنه «ليس مسألة من المسائل» وأنه ليس كل ما نأمل فى السودان إذ يجب أن يصاحبه الاعتراف بالوحدة والتاج.
وهذا رأى له قيمته لأن استصدار دستور للسودان تنفذه الإدارة البريطانية لا يحقق الوحدة فى شىء على الإطلاق، بل يترك الميدان للإنجليز، ويزيدهم هناك قوة على قوة وسلطانا على سلطان!
ويذهب «صدقى» فى تأييد رأيه هذا مذهبا بعيدا إذ يقول معزرا ما قال: أما مسألة السودنة التى تدور فى شأنها اتصالات ومفاوضات لفتح باب المفاوضة من جديد، ولا داعى لهذا الدلال الذى لن نفيد منه شيئا، وما دمنا نتكلم فى الجزء وهو السودنة فلم لا نتكلم فى الكل، وهو القضية برمتها التى إذا بقيت بدون حل فقد تصبح السودنة هباء!
وتلك للحقيقة غمزة جريئة ولا شك فيها ما يلقى ضوءا ساطعا على مناورة ماكرة يقوم بها الإنجليز لشطر القضية إلى أجزاء تدور حول كل جزء مفاوضات واتفاقات على حدة، وتنتهى جميعها بالرفض ثم العودة من جديد إلى القصة من بدايتها!
والنقد الخفى الذى وجهه إسماعيل صدقى إلى مشروع السودنة فيه تبصر بالأمر الواقع كما أن فيه ما يشعر بالخوف من أن يصرف هذا المشروع الفرعى المجاهدين عن هدفهم الأصلى، لأن الجلاء والوحدة شىء أصيل، والسودنة أو يستتبع الإقرار بالأصل.
وتصدق فراسة «صدقى» حين أعلن «بيفين» قبوله لمذكرة مصر بشأن السودنة، من حيث المبدأ الخاص باشتراك مصر وبريطانيا فى إدارة السودان لإعداد أهله للحكم الذاتى، ومساعدتهم على أن يتدربوا على مسئوليات الحكم.
وذهب «بيفين» أبعد من ذلك إذ وافق على تأليف لجنة مصرية سودانية إنجليزية للبدء فى تنفيذ ذلك المشروع الذى كان رأى مصر فيه هو السودنة تحت التاج المصرى وإنهاء الحكم الثنائى.
وأعود لأقول إن فراسة إسماعيل صدقى قد صدقت بقبول «بيفين» للمشروع من حيث المبدأ ليفتح ثغرة جزئية فى المطالب الوطنية المتكتلة تتحول إليها الأبصار مترقبة نتيجتها، ولكن سرعان ما خيبت مصر آمال «بيفين» ورفضت كلية مشروع السودنة وأبت أن تتحدث فى أمره!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.