كل ما نعرفه عن الموت حكايات وكلمات ، لكن كيف نموت؟، ما الذى نشعر به عندما تأخذ الملائكة أرواحنا؟، وهل ندرك عملية الانتقال من الحياة الدنيا إلى العالم الآخر؟، هل نعى أننا انتقلنا؟. ما أستطيع أن أخمنه أننا في الموت نمر بثلاث مراحل، الأولى ننتقل فيها من الحياة الدنيا إلى عالم آخر، ما هو؟، الله أعلم، ملائكة الموت هم الذين ينقلوننا، وأظن أننا نكون على وعى بهذه الخطوة، نعلم اننا نفارق أجسادنا وننتقل من الحياة الدنيا إلى عالم آخر، المرحلة الثانية التى نمر بها فى الموت هى العالم الآخر الذى ننتقل إليه، ومنه إما ننتقل إلى المرحلة الثالثة: عالم الموت أو الغيبوبة الكبرى حتى قيام الساعة، أو نظل فى المرحلة الثانية أحياء إذا كنا شهداء، والشهادة درجات:منها المطعون والمبطون والميت تحت الهدم، أرفعها الذين ماتوا فى سبيل الله عز وجل، وربما ينتقل الشهداء إلى الرفيق الأعلى أو إلى الجنة، يقال(فقهيا) عن عالم الموت هو البرزخ (والبرزخ هو الحاجز.) عندما يخطف الموت عزيزا، نجلس ونروى اللحظات الأخيرة من حياته،:»كان بيلعب وزى الفل، بعد شوية قال لي: يا ماما أنا دايخ، جسيته : حاسس بوجع؟، مافيش دقيقة رجع اللي في بطنه كله وارتعش، قلبي وقع في رجليه، أخذته في حضني وغطيته، تقولي نار، رعشة وسخونة، جريت أصرخ يسعفونا بدكتور، على ما التفت رجعت لقيته فاقد النطق ولوح تلج، قالوا لي بعدها: مات.. وكلما جاءوا للعزاء تتكرر نفس الحكاية مع بعض الإضافات الخاصة بذكر الصفات والأخلاق، وكأن هذه الرواية هي الخيط الذي نجتر به صورته من الذاكرة، حتى في وسائل الإعلام نشاهد ونقرأ آخر حوار أجراه قبل ساعات من موته، بعضنا يعتقد أن هذه اللحظات يكشف فيها للذي سيرحل بعض الغطاء، يرى بعض مما لم يكن يراه، وبعضنا يعتقد أن هذه اللحظات هي لحظات الحكمة والشفافية، لهذا يحرص أغلبنا على الاستفسار عما قاله قبل الرحيل. أبى عندما مات لم يقل شيئا، دخل الغيبوبة لمدة خمسة أيام، أبلغونا بعدها بموته، حكى أحد أصدقائه، وكان آخر من زاره في حجرته بالمستشفى، أنه( أبى) قال له: أشعر اليوم أن كل الأمراض خرجت من جسمي، ثم انكفأ على السرير، حضر الطبيب: نزيف في المخ، ونقل إلى غرفة الإنعاش، من يومها لم أعد أذكر ملامحه، حتى عندما أتطلع إليه في صورته، أراه بعيدا عن الذي كنت أعرفه، كان يجلس في البلكونه قبل الغروب، يتكئ بيساره على السور، أراه من داخل الحجرة يدمع أو يبتسم، كثيرا ما كان يستدعى بعض الوقائع المؤلمة والضاحكة، كان يعشق الموسيقى، حكى لي أنه حصل على دبلومة من معهد الموسيقى في تعلم العود وقراءة النوتة وكتابتها، كان يعشق التاريخ والآداب العالمية، يقرأ بالفرنسية والإنجليزية، بعد وفاته كنت أراه في البلكونه، وبعد القيلولة أسمع صرير باب حجرته، لشهور طويلة كان يناديني لأعطيه كوب ماء، أمي نفس الشيء ماتت دون أن تقول ما نسجله أو ننسجه في رواية ما قبل الموت، أصيبت لسنوات بالزهايمر، وكانت شقيقتي تطحن الطعام في الخلاط وتسقيها إياه، في موعد الطعام جاءت ترفعها اكتشفت أنها لوح تلج، طلبت الطبيب، أخطروني بأنها مريضة، في الطريق كنت أجتر بعض من صورها المخزونة في ذاكرتي ، حكاياتها ورائحة طبخها وخبزها وأبكى، سألتهم ماذا فعلت قبل الموت؟، قالوا : إنها لم تكن تفعل أو تقول شيئا يذكر، صورة أمي مثل صورة أبى عندما أتطلع إليها بعد سنوات، أجدها ليست التي كانت تتحرك أمامي وخلفي وجواري وفى خوفي وفى فرحى، ليست هي أمي التي كانت تجلس بيننا في المساء، أو التي كانت تطعمنا سرا في رمضان، يقولون إن الصور تبهت بعد موت صاحبها، والحكايات تتوه تفاصيلها، والذكريات تختزل في عدة كلمات، حتى طعم الموت تخف مرارته مع الأيام، ورائحته تتجدد عندما نشيع احدنا، رحم الله أطفالنا فى منفلوط.