لا أحد يعترض على حق الإضراب.. لأنه من أهم وسائل التعبير عن الرأى والمطالبة بالحقوق.. ولكن أن يتعارض ذلك مع حق الوطن فى العمل والإنتاج فهذه هى القضية.. وفى الدول الديمقراطية «الحقيقية» يراعى الداعون للإضراب دائماً حق الوطن فى ألا تتعرض احتياجات غيرهم من المواطنين ولا حق الوطن فى العمل. . مع حقهم فى الدعوة للإضراب. وكثيراً ما كنت فى دول عديدة فى أوروبا خلال الدعوة للإضراب من هؤلاء العمال أو غيرهم.. ولكنهم دائماً ما كانوا يقسمون أنفسهم عند الخروج للتعبير عن رأيهم بالإضراب.. ومصالح باقى المواطنين، وأتذكر مرة كنت فى لندن، وخرجت من المطار لأركب المترو إلى منطقة بيكاديللى حيث أنزل أحد الفنادق هناك فلم أجد المترو، وعرفت أنه إضراب للعاملين فى هذا المرفق الذى هو أول مترو أنفاق فى العالم، من القرن 19، ولم تعترض الحكومة.. بل دفعت إلى الشوارع بسيارات أتوبيس تابعة للقوات المسلحة لنقل الناس إلى مايريدون. المهم ألا تتعطل الأعمال.. وفى نفس الوقت لا تستعمل الحكومة العنف لمواجهة المضربين، بينما المفاوضات مستمرة بين الطرفين.. هو إذن ما نعرفه من تقسيم حق الإضراب.. أما الإضراب الجزئى بأن تضرب مجموعة من العاملين فى المرفق.. بينما باقى زملائهم يقومون بالعمل.. فهذا وجدته فى بريطانيا أيضاً فى أحد إضرابات العاملين بالسكك الحديدية.. فالمطلوب أن يعلن العمال عن رأيهم.. وليس الإضرار بالوطن أو بباقى المواطنين.. ومناسبة هذا الكلام ما حدث منذ يومين فى مرفق مترو الأنفاق بالقاهرة الكبرى.. عندما أضرب «كل» العاملين من سائقين ومفتشين وعمال يعملون فى كل الخطوط، أى تعطلت كل خطوط وقطارات المترو تماماً وهى تخدم مواطنين بالملايين.. وهددت نسبة كبيرة من العاملين بالنوم فوق قضبان القطارات لتأكيد إيقافهم سيرها تماماً. وخضعت الحكومة تماماً، ورفعت الراية البيضاء معلنة استسلامها واستجابتها لكل مطالب المضربين.. وفى مقدمتها عزل رئيس المرفق نفسه فى خطوة أعلنت فيها الحكومة عن فشلها فى حل مشاكل العاملين بالمرفق وخروج وزير النقل بنفسه يتحدث وهو يكاد يرتعش مما حدث ليعلن سحبه رئيس المرفق إلى مكتبه بالوزارة ثم إحالته للتحقيق. هنا نقول: كان أجدر بالوزير أن يحقق مع رئيس المرفق قبل أن يعزله حتى وإن خفف الوزير من وقع ما حدث بقوله إن رئيس المرفق بادر بالموافقة على الانسحاب.. إذ كان يجب على الوزير أن يجرى التحقيق العاجل وهذا لا يحتاج أكثر من ساعة فإذا ثبت أن رئيس المرفق يخطئ فى قرارات يتم العزل بل والمحاكمة.. ولكننا مازلنا نتبع نفس الأسلوب الأعوج وهو إنزال العقوبة قبل أى تحقيق!! بل هنا يجب على السلطة الأعلى من الوزير أن تعزل الوزير نفسه مع عزل رئيس المترو عقاباً له على أنه ترك الأمور حتى تدهورت.. وحتى وصل الأمر إلى حد تعطيل مصالح الملايين من ركاب المترو، وأعتقد أن الوزير أى وزير لا يعرف حقيقة مايجرى فى وزارته لا يحق له الاستمرار في موقعه.. لأنه من الواضح أن العمال اشتكوا كثيراً من رفضهم استمرار رئيس المترو.. وأنهم ما لجأوا إلى الإضراب إلا بعد أن استخدموا كل وسائل عرض قضيتهم.. فإما أن الوزير لا يعرف ذلك وتلك مصيبة.. أو كان يعلم ولكنه لم يتخذ من القرارات ما يمنع تداعى المشكلة إلى هذا الحد.. اللهم إلا إذا كان العمال قد تجاوزوا كل الخطوط فيما يطالبون به.. وإلا فأين كل الأجهزة سواء التابعة للوزارة.. أو الأجهزة الأمنية والرقابية فى الدولة كلها.. ولماذا لم يتخذ الوزير من الإجراءات ما يمنع تداعى الأمور إلى هذا الحد..إلا إذا كان هناك داخل الوزارة.. وأيضاً فى أجهزة الدولة من يريد أن تتفاقم الأمور حتى تصل إلى ما وصلت إليه. وما يهمنى هنا أيضاً إن سقوط الوزير كان شنيعاً.. لأن طريقة عزله لرئيس المرفق تعنى أننا يمكن أن نفقد كل قيادات الأجهزة الخدمية إذا قام العاملون فيها بأى إضراب وطالبوا بعزل رئيسهم.. وأن يتم العزل قبل أي تحقيق يحفظ ماء وجه المسئول.. نقول ذلك لأننا نلاحظ فى الفترة الأخيرة رفض كثير من الناس قبول أى منصب خشية مما يمكن أن يحدث له..ونتذكر هنا أن كثيراً من رؤساء الحكومات الذين كلفوا بتشكيل الحكومة عجزوا عن إقناع كثيرين لتولى منصب وزير الداخلية.. واسألوا الدكتور كمال الجنزورى الذى اضطر إلى حجب اسم الوزير المرشح لحقيبة الداخلية حتى لحظة أداء اليمين القانونية أمام الرئيس!! إنه أسلوب لا تعرفه أى دولة ديمقراطية، بل يرفضه أى مسئول لأن ذلك يعنى فى النهاية أن يفرض العمال مهما كان لهم الحق فى الإضراب أمرهم لعزل رئيسهم الأعلى عند أول مشكلة.. لأنه إن تكرر ذلك فلن نجد مسئولاً يقبل المسئولية فى هذه الظروف. وبالطبع هذا يختلف عن مطالبة فئة ما من العاملين بحقهم فى رواتب معقولة كما يحدث لنا مع المعلمين والأطباء، ولكن ماذا لو امتنع الفلاحون مثلاً عن العمل وأصروا على عزل أى مسئول.. وكذلك الأمر فى قطاع الصناعة. هذا يعنى فى النهاية ألا نجد من يعمل ولو حتى مراعاة لحق الوطن.. أم أننا استمرأنا سلسلة الإضرابات والاعتصامات للحصول علي أى مزايا مادية انطلاقاً من معنى أن من لا يحصل الآن على ما يريد.. لن يحصل عليه أبداً.