غامض، مرهوب، تربّى في أروقة النظام المعتمة. من ضابط أمن وناشط في اللجان، متحمّس لقيم الثورة التي أتى بها زعيمه القدوة والمثل، إلى ضابط كبير مسئول في فرع الأمن الخارجي، أكثر الأجهزة رهبة وأشدّها غموضاً وقسوة. من تونس كتب الصحفي محمد بوعود تقريرا فريدا عمن اسماه.. "الصندوق الأسود للنظام". تحت إمرة مدير الاستخبارات الأشهر في الوطن العربي على الإطلاق، عبد السلام الزّادمه، عمل وزير الخارجية المنشقّ عن النظام الليبي، موسى كوسا. لقّنه الأول أسلوب العمل يوم قرّبه منه مانحاً إياه سلطات واسعة ومُطلعاً إياه على ملفات لا يمكّن أحداً أن يطلع عليها مهما كانت درجة قربه من النظام أو ولائه للعقيد. وبعد مقتل الزّادمه بأربع عشرة طلقة، في حادثة إطلاق النار الشهيرة على موكب القذافي سنة 1989، التي أصيب فيها العقيد بطلقة واحدة، كانت الفرصة سانحة لتلميذه النجيب ومساعده القويّ والوفيّ موسى كوسا، أن يرتقي الى منصب مدير الاستخبارات، ليمكث فيه أكثر من ثماني عشرة سنة، عاشت ليبيا خلالها مراحل حرجة في علاقاتها بالغرب، وتوتّرات شديدة مع جيران عرب وأفارقة. كانت بصمات كوسا ظاهرة للعيان فيها، ونشاطات أذرع جهازه الرهيب تترك بصماتها في عديد الحوادث التي طُويت غالبيّة ملفّاتها، وانتهت أبحاثها بفضل ما يتمتع به الرجل من حذر عجيب وقدرة على إخفاء بصمات الجهاز من مسرح الحادثة، مهما كانت شدة الشكوك الموجّهة إليه ومهما كان حجم الضغوط. كوسا، إثر الاتفاقات التي تمكّن بعض رجال النظام المقبولين دولياً وأمريكياً من إبرامها لتجاوز معضلة لوكربي، واختراق الحصار الخانق الذي عاشته ليبيا، كان ينبغي إبعاده عن جهاز الأمن، وإعطاؤه منصباً يخوّله التعامل مع هذه الأنظمة، لكن بقفازات دبلوماسية بعيداً عن أساليب الضرب تحت الحزام التي ألفها طويلاً. تولّى منذ نهاية عام 2009 حقيبة الخارجية، في نظام يعتمد عدة رموز في المنصب الواحد، فإضافة إليه، كان يشغل العلاقات الخارجية كل من علي عبد السلام التريكي، مكلّفاً بالملف الأفريقي ومرشّح ليبيا الرسمي لرئاسة مجلس الأمن، وعبد الرحمن شلقم، الذي التحق بالثورة منذ أيامها الأولى، مكلّفاً بتمثيل ليبيا في المحافل الدولية ولدى الأممالمتحدة، وأحمد قذّاف الدمّ، المرافق الأقرب لابن عمّه القذافي، الماسك بملف العلاقات العربية. ولئن استطاع كوسا أن يصمد أكثر من شهر ونصف الشهر، وظهر في القنوات الفضائية والأرضية، وهو يقرأ بيانات ليبيا عن الأحداث والهجمات الأطلسية، فقد انهار أخيراً، في رحلته الى جزيرة جربة التونسية بصحبة عبد العاطي العبيدي، لمقابلة وفد فرنسي وآخر بريطاني للتباحث في سبل إخراج ليبيا من المأزق، إذ بعد يوم وليلة من المباحثات، التي لم تُعلن فحواها ولا نتائجها، ولا حتى أسماء أعضاء الوفود التي شاركت فيها، فل العبيدي راجعاً الى طرابلس، وغاب كوسا ليظهر في بريطانيا. ورغم أن الرجل لم يعلن، حتى الآن، مباشرةً انسلاخه، ورغم تسريبات خفية بفرضية تخديره واختطافه وترهيبه لإعلان إدانته للقذافي، أصرّت الدوائر الغربية على أنه اختار الفرار، رغم عدم تلقّيه ضمانات من الغرب والبريطانيين، وخصوصاً بعدم محاسبته على ما اقترف من عمليات أثناء تولّيه رئاسة جهاز الاستخبارات، أو خلال إمساكه بالشئون الخارجية. فرار وزير الخارجية الليبي ليس بالهيّن على النظام. ضربة في مقتل، يصعب على دائرة حكم طرابلس تحمّلها أو تخرج منها بأخفّ الأضرار، فهو الصندوق الأسود للنظام، وهو الكاتب الأمين لكلّ أسراره، وهو العالم بمفاصل قوته ومكامن ضعفه. خروجه بتلك الطريقة المريبة، سواء بمحض إرادته أو غصباً عنه، وضع نظام القذافي أمام تحدّ رهيب يتمثّل في إعادة صياغة كل الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتغيير كل أماكن التمويه والاختباء، وتغيير كل القيادات الموالية لكوسا، وإبعاد كلّ رجاله وما أكثرهم عن المواقع الحساسة. ويدفع هذا الانشقاق النظام الى البحث في كل الطرق التي تعيد تشكيل المشهد الأمني والعسكري والقيادي، بطريقة غير ما عهدته خلال ثلاثين سنة مضت، وهي مهمّة صعبة إن لم نقل مستحيلة، على نظام محاصر من الثوار شرقاً وغرباً، ومن قوات الأطلسي بحراً وجوّاً. نظام بدأ يفقد الثقة في أقرب رجاله، وقطع شوطاً كبيراً في التفكّك والتآكل من الداخل، بعدما ضربت عدوى الانسلاخ الجسم الرئيسي والدائرة القريبة المغلقة فيه. * "بتصرف" عن جريدة الأخبار اللبنانية