لم تعد جلسة المقهى تريحه، أصبح يستشعر اغتراباً عمن حوله فى المكان، حتى العامل الذى يأتى له بالطلبات أحس تجاهه بشعور بارد وقاس، على ساعته التى وضعت فى يده تأمل عقاربها، فكانت تشير إلى قرابة الثانية عشرة من منتصف الليل، بات يختنق من وحدته، داخل بيته يتأمل صور الراحلين ويستمر فى نجواهم حتى يغلبه النوم، وجد أن قدميه تقوده جهة محطة القطار، لا يعلم لما قصد محطة القطار وأى رصيف هذه المرة سيؤويه فى هذا الوقت المتأخر من الليل. وجوه الأفراد بالزى الميرى عند مدخل المحطة مكسوة بالتعب جراء يوم معتاد من العمل، تأمل أحدهم وقد وضع الكمامة على وجهه، يبدو أن النوم قد غلبه هو الآخر على مقعده دون أن ينزع الكمامة، بينما زميله ما بين الصحوة والنوم، لافتات تحذيرية تحذر الركاب من انتشار الفيروس المخيف الذى غزا سكان هذا الكوكب، لم يهتم أن يسأله أحد عن وجهته رغم أنه لا توجد مواعيد للقطارات الآن، فى هذه اللحظة أحس بنفسه أشبه بالظل الليلى للكائن الآدمى، فدفس يده فى جيب معطفه ثم واصل المسير، ماراً برصيف قطار المحلة الكبرى ثم رصيف قطار دسوق، ورسا به الحال أن يقصد رصيف الإسكندرية، ربما لأنه يحب هذه المدينة ويستوجد فيها ألفة تغمر روحه. أعمدة الإنارة ترسل ضوءاً ناعساً ينكسر على وجوه بعض المسافرين النائمين المنتظرين لقطار المناشى قبيل الفجر بدقائق، لخطواته صوت صليل يشعره بأنه كائن حى له تواجد وله حراك، ليس من عداد الأموات، كما يظن هو بعض الوقت، ثمة مقعد رخامى شاغر.. بعض من لفحات هذا الجو البارد تغمر المكان وصوت صفير متباعد لقطار البضائع يهز القضبان بحراكه، خمن أنه ربما يأتى على هذه القضبان التى أمامه وربما يكون على قضبان رصيف القاهرة. كأنما شقت الأرض فأخرجتها، تسير بخطوات ثابتة دون دلال أنثوى، تنتعل حذاء رياضياً يجعلها أشبه بطالبات مرحلة عمرية مبكرة، فى ملامح لم تبد حقيقة عمرها الزمنى، مرت من أمامه ثم عاودت، ثم راحت ثم أتت، أحكمت غلق زر قميصها العلوى، فكأنما أعدته لوضع رابطة عنق، وقد غطى ذلك القميص دثار من الصوف المغزول يدوياً مطرز عليه ثلاث زهرات برتقال. قالت فى استحياء :«هو ممكن أقعد ...» رد عليها فى أدب: «آه طبعا اتفضلى» استشعر ونساً أليفاً فى هذه الليلة، مع انسكاب ضوء أحد المصابيح على وجه تلك السيدة، دفعه الفضول أن يعدل من جلسته ربما يتبين بعضاً من ملامحها، غير أن رائحة لعطر الياسمين كانت تغمر أنفه وتهاجمه، قبض على علبة سجائره، ثم تناول واحدة وأشعلها محاولاً شغل تفكيره فى استنشاق التبغ الذى أحرقه . ثمة صوت دندنة يخرج من شفتيها، شده الصوت كى يتشجع فيعدل من جلسته أكثر بحيث يكون فى زاوية 45 درجة شبه مواجه لها، اجتهد فى تبين ملامح العين ثم نظر إلى يدها فلم تكن مسورة بأى سوار من ذهب أو فضة ليستدل أن أحداً يملك هذه الروح الوحيدة فى هذا التوقيت الفارق بين يوم ويوم، استجمع شجاعته وبادر بسؤالها: هل تنتظرين أحداً؟ ربما أنتظر.. وربما لا. كيف؟ أبى استقل القطار وارتحل.. كان من المفترض أن أركب معه لكنه صرخ فى وجهى أثناء تحرك القطار أن أبقى هنا وأنه سيأتى عائداً إلى عبر القطار المقابل. ولكن كم مر من الوقت على رحيل أبيك فى القطار؟ لا أعلم.. ما عدت أحصى الوقت.. ربما نصف نهار.. ربما يوم.. ربما يومين. هل أنت من هذه المدينة؟ لا.. لكنى أحب هذه المدينة.. كانت أمى تأتى بى لزيارة المسجد الذى به قبة ومقام نحاسى لامع. تقصدين مسجد السيد أحمد البدوى. نعم.. هو. إذن، من أى مدينة أنت؟ أنا من مدينة بعيدة عن هذه المدينة.. أعيش مع أبى، الذى ارتحل فى القطار وأنتظره. لكن لمَ يبدو من صوتك الحزن؟ لا أعرف أظن أننى ولدت بهذا الحزن.. لكنى أستشعر الآن نوعاً من الألفة. انسكب داخل روح صاحبنا نوع من الثقة التى منحته نشوة روحية جعلته يعدل من جلسته، ويستنشق من أحشاء سيجارته بثبات أكثر، غير أن رجلين قد مرا أمامه فتأملاه، فشكل له هذا الأمر بعض التشويش، غير أنه اندفع يسألها: «هل تعرفين هذين الرجلين؟» فأجابت: «أنا غريبة عن هذه المدينة.. ليس لى معرفة بأحد، أنت فقط من أعرفه». كان بصوتها حس مخلوط بشجن أليف استقطب روحه، ودفعه لأن يتأمل عينها، محاولاً تفهم هذه النظرة الطفولية التى تسكنها، مجتهداً لأن يعرف لون تلك العين التى بدت بنية أقرب إلى اللون العسلى عبر انكسار الضوء المنبعث من عمود الإنارة الذى يقف صامدا خلفها، هذه الألفة دفعته لأن يزيح من جسده محاولاً التقرب فى المساحة المكانية عساه أن يتلمس مساحة تنسم لعطر الياسمين المنسكب من تلك الفتاة التى تجاوره. - أريد أن أسمعك. - وماذا تريد أن تسمع؟ - حدثينى عن رحلتك؟ - ليس هناك بداية للرحلة.. المسارات فى كثير من الأحيان تتقاطع، ما أعرفه أننى هنا معك، استشعر نوعاً من السكينة ونوعاً من الألفة وأخشى أن تخذلنى. - لكن لمَ أخذلك؟ - لا أعلم.. فكل من التقيتهم قد أكدوا فى حديثهم لى أنهم أوفياء ثم خذلونى وبت كما ترانى الآن وحيدة أنتظر أبى. تأملها متفحصاً ذلك الثغر الذى ينطق بتلك الجمل التى أوقدت تفكيره ودفعته للمعرفة، محاولا تأمل شفتيها بحراكها الذى ينساب فى هدوء دون افتعال، ثم أخرجت عروسة من القماش من حقيبة يدها، قالت لى وهى تقدم العروسة القماش: «هذه زئردة.. صديقتى.. أنا أعتنى بها». قطع تأمله مشهد الرجلين مرة أخرى يمران من أمامه ثم توقفا يحدجانهما ويطيلان النظر لكنه لاحظ أنهما يدققان النظر إليه فقط، ثم يخبطان يديهما ويمصمصان شفاههما. شعرت – هى - بأن رفيقها فى هذه الليلة قد أصابه تعكير الصفو، بان عليه حين استنشق سيجارته بغضب، وضعت يدها على يده، قالت: «لمَ أنت غاضب؟.. أنا لا أعرفهما.. دعك منهما». استشعر عبر هذا المس وصلاً من نوع مختلف، كأنما تسربت ابنة حواء إلى وريده، فكانت دماء تضخها إلى دمه، لم يستشعر سوى لهب السيجارة كادت أن تحرق إصبعيه، فرماها بشكل مفاجئ، فضحكت الفتاة التى لم يعرف اسمها، ضحكت ضحكة طفولية، كأنما أشرقت زهور الياسمين مرة أخرى، ترجمت هى عبيرها بسمة وبهجة وحفر كل ذلك داخل روحه فابتسم الحق أنه ابتسم من القلب، ثم علا صوته بالضحك . غريب أمر هذين الرجلين، يعاودان مرة أخرى، يبدو أنهما بحاجة إلى وقفة، بان عليه الغضب هذه المرة، قرر أن يتوقف ويلقنهما درساً وتعنيفاً قاسياً، لكنها ربتت على يده، ثم أردفت القول : - لا أعلم.. ما الذى يدفعنى لأن أتحدث معك؟ كأننى أعرفك منذ زمن، بت أراهن عليك فى أن تستمع إلى حكاياتى، لكن هل تعاهدنى على ألا تتركنى؟! ابتسم صاحبنا وقد دبت فى روحه حياة من نوع آخر، أن يستشعر روحاً تود عناقه، أن تتدفأ بتواجده، لم يكن لليل هذا اليوم تلك القسوة التى اعتادها فى المقهى، كان الليل أليفاً وريح الشتاء وديعة حانية غير صارمة، تشجع هذه المرة ووضع يده على كتفها، ثم استجمع شجاعته قائلاً يخاطب تلك الفتاة التى لم يعرف اسمها: «لا تخافى.. سأبقى معك حتى يأتى أبوك.. أنا هنا معك سأستمع إليك.. استشعرت الفتاة روحا طيبة تدثر جسدها، انكمشت هى وعروستها القماشية متوسدة قدم هذا الصديق داخل هذه المحطة وعلى المقعد الرخامى على رصيف الإسكندرية وهى أيضا لم تعرف اسمه.. استسلمت لسكينة نوم طفولى حالم تعانق «زئردة» «الدمية الرفيقة».. مرة أخرى عاد الرجلان فى القدوم.. توقفا أمامه، تأملاه واقتربا منه. حوقل الرجال فى سرهما، ثم علا صوتهما، لا حول ولا قوة إلا بالله، الشاب زى الورد وبيكلم نفسه، يا لطيف بعبادك يا رب. تأملهما، لاحظ أنهما يتحدثان، لكن صوتهما لم يصل لأذنه، خشى أن يتحرك أو يحرك قدميه لئلا تستيقظ هى.. داعب خصلتين من شعرها فرتا من تحت طرحتها، فتجاسر ثم وضع راحة يده على خدها الأيسر.. متأملاً خال الحسن الذى سكن مستقر الوجه.. منكمشة ومعانقة لدميتها فى سكينة. تجمع نفر من رجال المحطة، وقفوا أمامه، لم يتبين قولهم، كانت شفاههم تتحرك دون أن يسمعهم، خشى أن تفزع الأصوات فتاة المحطة والرصيف والقطار من نومتها متوسدة قدمه، أشار لهم بسبابته على فمه أن يصمتوا كى لا يُفزعوا يمامته الساكنة.. فقط تلك الجملة التى تصارعه وتغازله وتراقصه ويتكرر صدى أحرفها فى أذنه «عاهدنى على ألا تتخلى عنى».