اليوم.. وزارة الأوقاف تفتتح 8 مساجد جديدة بالمحافظات    د هاني أبو العلا يكتب: رحلة من جامعة الفيوم إلى وادي السيلكون    اجتماعات طارئة لإدارة ترامب بعد مناوشاته الكلامية مع ماسك    تأليف تركي آل الشيخ.. «ذا سفن دوجز» يجمع كريم عبد العزيز وأحمد عز بميزانية 40 مليون دولار    دوى صافرات الإنذار وإعلان حالة التأهب الجوى فى كييف و11 مقاطعة أخرى    أبو الغيط: الخروقات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار بلبنان تهدد بتجدد العنف    وول ستريت جورنال: إيران تطلب من الصين مواد لمئات الصواريخ الباليستية    «ظلمني وطلب مني هذا الطلب».. أفشة يفتح النار على كولر    تحرك أمني لضبط صاحب شركة مقاولات وهمية نصب على المواطنين في ملايين الجنيهات بالهرم    موعد صلاة عيد الأضحى 2025 في القاهرة والإسكندرية وجميع المحافظات    موعد ظهور نتائج سنوات النقل في الجيزة عبر بوابة التعليم الأساسي 2025 (تفاصيل)    كيفية حفظ لحوم الأضاحي.. خطوات بسيطة لصحة آمنة في عيد الأضحى    عبارات تهنئة رومانسية لعيد الأضحى 2025.. قلها لحبيبك فى العيد    محافظ الأقصر يتفقد ساحة أبو الحجاج استعدادًا لصلاة العيد (صور)    وفاة الإعلامية والكاتبة هدى العجيمي عن عمر 89 عاماً    الفرق بين صلاة عيد الأضحى والفطر .. أمين الفتوى يوضح    رسميًا الآن.. موعد صلاة العيد الاضحى المبارك 2025 ( التوقيت المحلي)    بعد التتويج بالكأس.. الونش: الفوز بالكأس أبلغ رد على أي انتقادات    محمد أسامة: ثلاثي الزمالك استكمل المباراة مُصابين ونهدي اللقب لجمهورنا    عيار 21 يقفز أكثر من 100 جنيها.. مفاجأة في أسعار الذهب محليا وعالميا أول أيام عيد الأضحى    غارات إسرائيلية جديدة تستهدف ضاحية بيروت الجنوبية    عقوبات أمريكية على 4 قضاة بالجنائية الدولية لإصدارهم مذكرات ضد نتنياهو    اليوم.. الرئيس السيسي يؤدي صلاة العيد بالعاصمة الإدارية    مسجد نمرة.. مشعر ديني تُقام فيه الصلاة مرة واحدة في العالم    مصرع شابين وإصابة 4 آخرين أثناء سباق موتوسيكلات بكفر الشيخ    وفاة شقيقين وابن عمهم في تصادم ملاكي مع تروسيكل بالإسماعيلية    بيراميدز يهنئ الزمالك بالفوز بكأس مصر    بيسيرو يهنئ الزمالك بعد الفوز بلقب كأس مصر 2025    ناصر منسي: أهدي كأس مصر لجماهير الزمالك الوفية    بالفيديو.. استقبال خاص من لاعبي الأهلي للصفقات الجديدة    عمر جابر: جمهور الزمالك يستحق بطولة    طريقة صلاة عيد الأضحى المبارك 2025 وصيغة التكبيرات الصحيحة    سعر طن الحديد والاسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 6 يونيو 2025    محافظ سوهاج يتفقد الحدائق العامة والمتنزهات استعدادًا لعيد الأضحى    محافظ قنا يستقبل ممثلي الأحزاب ونواب البرلمان للتهنئة بعيد الأضحى    سالى شاهين: مجال ملكات الجمال مش شبهى ولا شخصيتى    كيرلي وقصات شعر جديدة.. زحام شديدة داخل صالونات الحلاقة في ليلة العيد    بعد طرحها.. "سوء اختيار" ل مسلم تتصدر تريند " يوتيوب" في مصر والسعودية    المايسترو تامر غنيم مديرًا للدورة 33 من مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية 2025    أشرف عباس يكتب: من الميكروفون إلى المائدة.. من أسكت صوت مصر؟    عاجل.. "الشهر العقاري" تواصل تقديم خدماتها خلال إجازة عيد الأضحى    رسميا بعد الانخفاض.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري الجمعة في أول أيام عيد الأضحى المبارك    وزير السياحة يتفقد مخيمات الحجاج فى عرفات ويشيد بالتنظيم    ما هي سُنة الإفطار يوم عيد الأضحى المبارك؟    سُنن الخروج لصلاة العيد.. احتفالات واتباع للسنة النبوية    خطوات عمل باديكير منزلي لتحصلي على قدمين جميلتين في عيد الأضحى    السيسي يؤدي صلاة عيد الأضحى اليوم في مسجد مصر بالعاصمة الجديدة    الإمام الأكبر يهنئ الرئيس السيسي وقادة العالم الإسلامي بعيد الأضحى المبارك    حماس: لم نرفض مقترح ويتكوف ومستعدون للانخراط في محادثات جديدة لإنهاء الحرب    رئيس هيئة الرعاية الصحية يلتقي محافظ بورسعيد ويبحثان سبل تطوير الخدمات الصحية    قطر تهزم إيران بهدف نظيف وتنعش آمالها في التأهل إلى مونديال 2026    جامعة كفر الشيخ ترفع درجة الاستعداد بمستشفى كفر الشيخ الجامعى خلال العيد    في وقفة العيد.. «جميعه» يفاجئ العاملين بمستشفى القنايات ويحيل 3 للتحقيق (تفاصيل)    المهيرى: اتفاقية للحفاظ على حقوق العاملين ب «اقتصاد المنصات»    شيخ الأزهر يهنئ الرئيس السيسي والأمة الإسلامية بمناسبة عيد الأضحى    " صوت الأمة " تنشر أهم التوصيات الصادرة عن المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية    خلال اتصاله بنظيره الرواندي.. وزير الخارجية يشدد على أهمية تحقيق التهدئة في منطقة البحيرات العظمى    الصحة: فحص 17.8 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف عن الأمراض المزمنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بريد الوفد ..رائحة مختلفة للموت

ارتشف من فنجان القهوة التى وضعت أمامه رشفة ومازال شاخصًا ببصره إلى جهة غير معلومة، يده على شفتيه يمط فيها بينما اليد الأخرى تقبض على سيجارة يشهق منها بعمق كأنما تستعر بداخله معركة شبيهة بتلك التى تستعر بأحشاء سيجارته، وقدمه تداوم على الاهتزاز وهى عادة ألفها وتعود عليها كل من التقاه وقابله أو صادقه، هذه المرة طلب أن يلتقينى منفردًا، فى مكان خالٍ من الضجيج، ومن ثم أخذت موضعى جالسا أمامه أحاول استيعاب ما يود أن يقوله دون تطفل أو تقدم منى فى استنطاقه أو اقتحامه.. ربما يتكلم بعد قليل هكذا قلت لنفسى.
- للموت رائحة مختلفة.. لم أستطع التآلف معها..
استبد بانتباهى عقب قوله، دفعنى لتأمله عادلًا من وضع جلستى، مجمعًا كل مراكز الإدراك لاستيعاب ما قاله وما سيخبرنى به.
لكنه عاود صمته من جديد مع استمرار حركة قدمه.
قلت فى نفسى ربما يقصد مهنته التى احترفها، مهنة تطبيب المواجع وعمله كجراح من أشهر جراحين مدينتى الصغيرة دفعته ليقول هذا، وربما كان يقصد رائحة فورمالين تخزين الموتى.. ما ثمة تلك الرائحة التى يقصدها ذلك الرجل الذى يسكن بداخله طفل أليف. وقد وضعت تصورًا له فى مخيلتى أنه رجل يعيش بقلب وحس طفولى، فما للأطفال والموت ورائحته. قطع حديثى لنفسى مواصلًا حديثه الذى ربما أخرجه اللاوعى على غير رغبة منه.
شممت رائحة الموت وأنا أتابعها داخل غرفة العناية المركزة، تجاور هؤلاء الذين يرقدون جوارها مغيبين عن كل العالم، عن الأموال التى جمعت، الأبناء الذين شغلتهم مشاغل الدنيا، لكنها نظرت إلى بعينها وكأنها تريد أن تخبرنى بمعرفتها أننى أعرف، ربتت على يدى فى صمت، ربما كانت تؤازرنى لأنى شممت تلك الرائحة.. رائحة الزائر الذى يقترب وتنتظر قدومه، كانت تواسينى للحظة إدراكى بمجيء الزائر القدرى المكتوب له زيارة الجميع.
لاحظت عينه وقد أغرورقت بمائها فلم أكن أود توقيفه ولم أكن أيضًا أود أن أوجه نظرى جهة عينه فألمح ضعف الطفل فى هيئة الطبيب الذى يمتهن الجراحة.. أطفأ سيجارته بانفعال وعاود مواصلة حديثه:
- بقى لها سويعات، لم أستطع الانتظار أمامها، نظرت فى عين طبيب العناية المناوب، قال إن الأمور تسير بخير وربما استقرت الحالة، مخبولون الأطباء يعتقدون بقانون أجهزة قياس الوظائف الحيوية طالما أعطت مؤشرات تعطى الأمل فى الحياة، بينما أنا من أشتم الرائحة وأنا
الذى لا أخيب حاستى فى تلقيها.
كنت بحاجة إلى دعمه معنويًا، بحاجة إلى تقديم يد عون لاستفراغ ما يحمله فى روحه، قلت له: «الجراح دائمًا ما يتعامل مع المرضى، أنت لك اسمك عزيزى، ربما تعاملك مع الأسرة ومشرط الجراحة دفعك بحكم الخبرة لأن تقول هذا».
رد هو: الأمر فى الجراحة أشبه بموهبة فطرية شبيهة بموهبة لاعب الكرة التى يولد بها، هناك نفخة إلهية يمنحها الله لبعض الجراحين، أشبه بمناجاة صامتة بين الجراح وبين أعضاء الجسم أثناء إجراء الجراحة، ترنيمة تستمع إليها بقلبك ثم تسبح بها يدك تغوص فى أحشاء ابن آدم، تشعر بقيمتك لأن الله وهبك هذا الأمر أن تتفحص سره فى الخلق، سره فى التكوين.. أنا أشتم رائحة الموت منذ زمن بعيد.. ليست سابقتى الأولى مع أخى مصطفى رحمه الله، كانت سابقتى الأولى وأنا فى المرحلة الابتدائية، يومها كنا نزور أحد أقاربنا ولاحظت أمى حزنى، كان ثمة شيء يدفعنى لأن أصرخ لكن صوتى كان لحظتها مكتومًا، كان المريض ينظر لى بابتسامة، كأنه أيضًا يعرف ما شعرت به، ثم فى ساعة قبل منتصف الليل وجدتنى أستيقظ محتضنًا أمى وأبكى، أقول لها: «عمى فلان مات يا ماما الله يرحمه»، كان رد الأم وقتها: «لا يا محمد ما تقولش كده ربنا يشفيه»، وبعد دقائق جاء اتصال على هاتف منزلنا يخبرنا أن الرجل قد توفى، لحظتها احتضنتنى أمى لكن تلك الرائحة لم أزل اعتادها وأتفهم رحيقها وعبقها.. حتى رحيل أخى، وقت أن شممت الرائحة استمسكت بيده، حاولت أن أترجى ذلك الضيف الزائر أن يمهلنى أعانقه لبعض الوقت، لكن رائحة الموت كانت تنتشر فى كل أركان غرفته، كان مصطفى يبتسم فقط مستسلمًا لذلك الزائر، ومنذ أن أدركت تلك الرائحة، أناوب زيارة مرضاى أو دخول غرفة العمليات متوسلًا إلى الله ألا أشتمها.. أو تتحسسها أنفى.
قاطعته: «ومن تلك المريضة التى شممت رائحة الضيف عندها؟
هى أم طبيبة للقلب، تعمل معنا».
-الدكتورة داليا.
-أيوه هى.. ربنا يتولاها برحمته.
رن فى ذاكرتى حضور لهذا النموذج
البشرى، طبيبة القلب التى التقيتها مرات مصادفة أثناء علاج عم محمد الوصيف رحمه الله، أشبه بالرينة ضلت طريقها بالخطأ إلى عالم الطب، قدر من الرقة يدفعك لأن تتساءل كيف لهذا الرهافة أن تلتقط مشرطًا جراحيًا أو تتعامل مع أوردة القلب، غير أنى ذات مرة قلت لنفسى إنها ربما كان لها نصيب من مهنتها، جراحة القلب، وكأنما كانت منوطة بتضميد أوجاع القلب، مكمن الروح وبئر الحياة لابن آدم، منوطة بالحديث مع القلب وهمه وأتراحه وأحزانه، مخزن الألم والحب والذكرى لدى ابن آدم، كان لحضورها مشهد حزين رغم تصنعها الدائم لابتسامة كانت تخدش قليلًا من روحها، وكنت فى أغلب الأوقات أتحاشى النظر إليها، عددتها داخلى من أصحاب الأحمال الثقيلة، أحمال الروح، وكانت لعينها نظرة حزن توخز فى صدرى لكنى لم أكن لأتجرأ على فهم هذا الحزن.. مسكينة هذه الطبيبة الرقيقة.. كيف لها أن تتحمل نبأ وفاة أقرب الناس لروحها وقلبها، رحيل أمها، مسكينة، طافت بذاكرتى وهى تبكى عقب علمها بنبأ الوفاة، تقبض على يد أمها ترجوها أن تبقى خشية أن تستشعر وحدة جديدة غير تلك الوحدة التى استشعرتها وتستشعرها وأستشعرها أنا الآخر، وكلما نظرت إلى عينها فررت محاولًا الإفلات والهرب من تلك العين، تلك الابتسامة التى تخفى آلامًا لم يدركها من حولها.. ولم أدرك أنا الآخر حدود خريطة ذلك الحزن.
نصف ساعة مرت من جلستى مع الدكتور محمد حشيش، رن هاتفه، أمسكه بشهقة زفير، رد بجمل مبتورة، بلغوا دكتورة داليا وأنا فى طريقى إليكم.. عادت مرة أخرى عينه مغرورقة بمائها.. لم يتكلم، كان الهاتف هو الشاهد لما ذكره عن الرائحة، رائحة الموت، مشى لجانبى، وكأنما يتأهب لاستكمال دوره، بعدما اشتم الرائحة، كان بحاجة إلى أن يتحدث بنبرة أخرى، ولكنى شعرت بنوع من الخسة إذا تركته وحيدًا داخل هذه اللوحة السردية للزائر الخفى ورائحته، مصطحبنى إلى المستشفى، حيث غرفة العناية المركزة، توقيت ما بين الثانية والثالثة فجرًا، القانون الإنسانى أن يغلق الستار على الحالة التى ارتحلت حتى لا يلاحظ أحد من المرضى، لا يعلم هؤلاء من سيكون له نصيب من زيارة الوافد، من سيشتم الجراح صديقى رائحة الموت منه؟، على طرقة الغرفة المزودة بأجهزة قياس وظائف جسد ابن آدم استقبلتنا طبيبة القلب، لم تخف هذه المرة لحظات الحزن رغم محاولة أدائها لنمط الثبات، بصحبتها طبيبة أخرى حديثة السن، ثابتة فى الخارج، بينما حزن من نوع مختلف وأكثر شراسة يغزوها.. مصافحة هى من حضر لمواستها، انصرفت هاربًا من المشهد، مستشعرًا بأنفى كل الروائح داخل غرفة العناية المركزة، متسائلًا عن هوية ولون وعبير هذه الرائحة.. حيث الرائحة التى يشتمها فقط الجراح الذى يجاورنى، يشتمها ويفترض عليه ألا يبوح بسرها أو يجاهر بتواجدها، أو يعبر للآخرين عنها، كأنما يلمح طيف الزائر الوافد، يقرئه السلام فى صمت ويمضى بمفرده هو، يرجو رحمة الله لأن يحمل الزائر الأمانة فى سلام دون ألم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.