أحصت بأصابعها ثلاث شعيرات بيضاء، ثم تأملت المرآة عن قرب، فظهرت واحدة رابعة، ثم اثنتان مختفيتان، وعندما اقتربت بوجهها أكثر، وجدت أن ثمة خصلات متفرقة مختفية تحت حزمة من شعرها جهة الجانب الأيمن من الرأس، ملت من إحصاء الشعيرات البيضاء، فردت إحداها، ثم سرعان ما أهملت العدد، جرت يدها على معجون الصبغة، اكتشفت أن الأنبوب قد قارب على النفاد، ضغطت بعنفوان، فخرج لسان الصبغة غليظاً، كأنما يسخر منها كما تفعل الأطفال وقت الامتعاض، لكنها أصرت أن تزيد من عنفوانها بضغط الأنبوب، فأخرجت كل ما فيه، وكأنما ودت فى صباحها هذا أن تستشعر طعماً للانتصار، حتى لو كان الخصم أنبوب صبغة الشعر. سبع سنوات، عزيزى المحرر، هى المتبقية لى داخل مضمار الركض الحياتى، ما أغرب هذا العدد وما أعجز كنهه وهويته ومفهومه، السبع العجاف والسبع الثمان، السموات السبع والأراضين، هذا هو العدد الزمنى المتبقى للخروج من العمل الوظيفى، ثم الركون لمقعد المسنين، سن التقاعد أو سن المعاش، لم يكن قبل هذا العدد هناك إحصاء أو تأمل للأشياء، لكن فى هذا العام تحديداً، وجدتنى أتأمل الأمور محاولة إيجاد تفسير لها، أو ربط علاقة سببية بما يحدث.. لما سيكون.. وما هو آت. رغم أن علاقتى بالفلسفة علاقة تنافرية، فلا أنا محبة للحكمة ولا أنا باحثة عنها. حتى إن كتابتى لك أيها الرجل لا أفهم مغزاها، ستتتهمنى مرة بالتشتت ثم ربما تغير رأيك فتصفنى بالعمق، ثم تعدل من المؤكد عن كل هذا الوصف لتطرح وصفاً أكثر دقة، فتصفنى بالحالة التى ستمر عليك عبر كلماتى دون معرفة هويتى، فتنصرف عن تلك القصاصة الورقية، ثم تعاود عالمك متناسياً أمرى منشغلاً ومنهمكاً فى حالة أخرى. عزيزى المحرر: هل تسمح لى بأن أصطحبك فى جولة افتراضية عبر شقتى المتواضعة؟، هل تقبل بأن تكون ضيفى الافتراضى؟، ستجلس هنا، لا سأطوف بك أركان شقتى المصغرة، هذه الشقة التى تركها أبى ضمن قسمة ونصيب ميراثى منه رحمه الله، عندما أقرأ للكتاب أعرف أنهم محبون للقهوة، سأدعوك لفنجان قهوة، ربما ستقع عينك فى البداية على برواز الطفل الباكى، رائعة الفنان جيوفانى، أحبذ هذه اللوحة، أجدها تعبر عن أمر داخلى ما زال لم يخرج، يكمن فى نفسى، ثم ستسألنى عن الفتاة الحلوة التى بثوب الزفاف، مع هذا الزوج الوسيم، هذه «يمنى» الحلوة، يمنى ابنتى الكبرى، زوجتها منذ عامين، لم يشارك أبوها الذى انفصل عنا فى سن عمرها السبع، غريب عزيزى المحرر لا يزال الرقم سبعة هو منبت الحكاية، وهو الإشارة المرورية للأزمنة والذكريات وتقاطعها، تخرجت يمنى من الجامعة، كان هدفى الأول أن تستشعر هى وأخوها اكتمال معالم الحياة حولها، صرت الرجل والمرأة داخل هذه الأسرة، انكببت على عملى فى الصباح، معلمة للغة الإنجليزية، وفى المساء مارة من بيت لبيت، بهدف جمع المال كى لا ينقص الأولاد شيء، اقترضت قرضاً على مرتبى مرة ثم مرة ثم مرات كثيرة أضحيت غير قادرة على إحصائها، ها أنت ترى الصورة الآن، يمنى أصبحت زوجة، كتب الله لها الستر، ووفقنى فى تزويجها، هى الآن على وشك أن تضع مولودها الأول، فى ليلة الزفاف لم أكن لأتخيل أن تخلو حياتى دون وجود لهذه الفتاة، قال لى زملاء العمل، لن تتركك ستزورك بين الحين والآخر، لكنى بت أيها الرجل الذى يقرأ كلماتى أترقب اتصالها، خصصت لها نغمة مخصصة على هاتفى النقال، بات صوت فيروز عزيزاً، وبخيلاً لأن يروى ظمئى فى سماع صوتها، يمنى تحب فيروز، «سألتك حبيبى لوين رايحين» خصصت لها هذه النغمة، لكن صوت فيروز أضحى شحيحا فى منزلى، لم يأت إلا أوقاتاً ضئيلة. بينما الابن والولد، وفقه الله للالتحاق بوظيفة فى القاهرة، قال لى: «حتى لا يتبدد المرتب، سأعيش بصحبة زملائى، نقتسم معاً إيجار شقة بوسط البلد، ثم نتناوب للعمل»، فى البداية كان يأتى كل عطلة، يكوّم لى الملابس المتسخة، ويتركنى ليمضى ليلتقى بأصحابه هنا، على المقهى، ليعاود فجرا فيجدنى قد انتهيت لتوى من نوبة الغسيل وكى الثياب، يدخل هو للنوم على فراشه الذى بات منظما طيلة أيام الأسبوع باستثناء الجمعة فقط، ومع توالى الأزمنة عزيزى الكاتب، بات يخبرنى باتصال هاتفى، أنه لا يستطيع أن يأتى هذا الأسبوع، سيقضى عطلته مع أصدقاء العمل فى القاهرة.. بت هنا الآن وحيدة أبيها. والمتبقى من الزمن سبع سنوات، سبع سنوات فقط ليتم إحالتى لسن المعاش. دق الهاتف الجوال، معلناً عن قدوم رسالة، جاء محتواها: «لا أعلم سبب رفض عرضى للزواج بك، ألم تقررى بعد أن يستند كلانا على الآخر فى عزلته ووحدته وغربته ووحشته»... ولأنك ضيفى عزيزى المحرر، فإنى لا أخفى عنك مصدر تلك الرسالة النصية، محمود عبدالمعز، الوكيل التربوى الذى يعمل فى المؤسسة التعليمية التى أعمل بها، له ظروف مشابهة لظرفى الحياتى، منذ ثلاث سنوات، تجرأ وقدم عرضه بالاقتران بى، وفى كل مرة أتحجج بحجة مختلفة للهرب، أكتفى منه بفنجان قهوة، وذات مرة تجرأت والتقيته فى مكان عام، نادى المعلمين بمدينتى، قلت لنفسى هو مكان للقاء الأصدقاء، وصادف الأمر أن المؤسسة دعت إلى حفل تكريم إحدى المدراء لبلوغه سن المعاش، لم تكن هناك فرصة لانسحابى هذه المرة، وجدتنى أضع أحمر الشفاه، وأصفف شعرى، ثم عزمت على الذهاب.. كانت هذه هى مرته الأولى التى تقدمت فيها يده لمعانقة يدى، استشعرت دفئاً أليفاً كنت فقدته منذ زمن، ثم وجدتنى بعد لحظات أسحب يدى وأتوجه للطريق لاحقة بسيارة أجرة، دون لياقة أو أدب فى توديعه. صار بداخلى رغبة لعدم فعل شيء، رغبة لعدم اجتياز شقتى أو عزلتى أو دائرتى، خائفة من مواجهة الأبناء بأمر التفكير مجرد التفكير فى عرض الزواج.. كل ما أختم به رسالتى لك أن الباقى من الزمن سبع سنوات.. سبع سنوات فقط. العزيزة «س، م» صاحبة الرسالة.. أولاً: كل الشكر على استضافتك الافتراضية لى داخل دائرتك الحياتية، قرأت رسالتك فكأنما طفت بتلك المعالم، وتوقفت أيضا عند لوحة الطفل الباكى، وباركت لك زواج ابنتك الكبرى يمنى، حفظها الله لك، حتى إن طعم القهوة كان جيداً، أتدرين ماذا تسمى المنطقة الروحية والفكرية المتوقفة أنت فيها الآن، أتعرفين ما عنوان هذه المحطة، اسمها «المنطقة الآمنة»، والحق أن هذا المصطلح استعرته من صديقى المهندس محمود بدران، هذا الرجل الذى يملك قدرا من الحكمة والصمت يدفعنى لتأمل كل حرف من أحرفه كلما سنحت الأمور والظرف الزمنى لأن نلتقى، عندما أطلق صديقى بدران هذا المصطلح فى وجهى أول مرة تأملته، متسائلاً عن مفهوم هذا المصطلح، فرد علىّ بنفس نبرته الهادئة والخافتة: «هذه المنطقة هى المنطقة التى نتوقف عندها دون وجود دافع انجاز حقيقى لتخطيها فنقدم على عقد صفقات زمانية أخرى، فى هذه المنطقة يختفى عنصر التعزيز، عنصر المغامرة، تفقد الحياة لوناً من أهم ألوانها، وهو الطموح، فقط نكتفى لما وصلنا إليه، نصل لهذه المنطقة عبر رحلة عناء زمنى وارهاق نفسى، داخل الاطار الوظيفى، الاطار الأسرى، الاطار الحياتى والمادى أيضاً».. اسمحى لى عزيزتى صاحبة الرسالة أن أنقل لك توصيف صديقى، لتعرفى اسم المحطة الزمنية والعمرية التى توقفت فيها، هل أخطأت بتوقفك عند هذه المحطة مخافة الاقتراب من محطات حياتية أخرى؟. بالأخص هل ترقبك من الاقتران والزواج بزميلك فى العمل بعد كل هذا العمر الفائت يعد كسراً لحدود المنطقة الآمنة والدخول فى عواقب ربما لا تعلمينها؟». عزيزتى صاحبة الرسالة: كما أن للمنطقة الآمنة مزاياها، حيث تبقينا بعيدين عن محيط المجازفة والمغامرة والخسارة، فإن لها سلبية شديدة التعقيد والألم، سلبية فقدان الهمة، وفقدان طعم جديد للانتصار، غير أن التساؤل الأهم عبر هذه المعطيات الكثيرة والمتراكمة يكون مفاده الآتى: «هل نعيش هذه الحياة لتحقيق مزيد من النجاحات، أم أننا نعيش هذه الحياة لنستشعر سعادة تفرح قلوبنا؟ سعادة تدخل على الروح وميضاً يشعرها دائماً بالتفاؤل، سعادة تكون معادلة لمعنى البقاء، سعادة تجعلنا متوجهين للسماء بالشكر على نعمة الله علينا، سعادة تجعلنا نعمل بهمة، يكون لطعم عملك بين طلابك حس ممزوج بالانتصار لا بالهزيمة. ذات يوم سألت صديقى بدران عن سبب رفضه لعرض اقامته فى إحدى الدول الأوروبية، قال لى: «خرجت من الدنيا بابنتى صبا وروان، أضحت صبا هى عالمى الذى أحيا من أجله، وروان هى بهجتى التى أصحو على بسمتها وأنام على صوتها الطفولى تناكف والدتها التى صبرت معى وتحملت الكثير.. لمَ أكتب على نفسى نوعاً من الألم؟ من أجل ماذا؟ تحقيق قدر أكبر من المال والنجاح والطموح، إن الرغبة الحقيقية والهدف هو استشعار السعادة، ماذا سيكون المعنى الحقيقى للحياة إذا كانت قطاراً للطموح دون وجود لمحطة يتوقف عندها، هنا يكتب الإنسان الشقاء على نفسه، طالما أهمل عنصر الرضا». تحضرنى مقولة للعالم البريت أينشتاين يقول فيها: «إننا سجناء حواسنا المحدودة ولهذا نعجز عن رؤية الحقيقة وتصورها. لذا لا يمكننا حل مشكلة باستخدام نفس العقلية التى أنشأتها». وأنت عزيزتى صاحبة الرسالة مثلى مثل آخرين كثر، سجناء حواسنا المحدودة، ولنغير مقعد السؤال وأتوجه لك أنا بالسؤال: «ماذا لو اقترنت وتزوجت بهذا الرجل وفشلت التجربة؟».. هل سينتهى العالم؟ ثم عمَ تبحثين أيتها السيدة الطيبة... عن معادل السعادة والسلام وربطها برضا الله؟ فى هذه الحالة ستكونين أقدمت على تجربة يباركها التشريع الأخلاقى والسماوى، حتى لو فشلت هذه التجربة، ستكتشفين أنك قررتِ القيام بفعل موافق للحياة هو الانتصار لفكرة التجربة طالما لم تتخل عن قيمك الأخلاقية. الأمر بحاجة إلى همة فعلية، لكن عليك أن تفرقى بين الهمة والمخاطرة، الهمة فى وجود تعزيز ودافع للانتصار لفكرة الحياة، بينما المخاطرة أن نعلم أن الباخرة مثقوبة ومحركها به عطل ونصر أن نركب بها البحر ونبحر فيه. العرف والشرع، من منهما صاحب الغلبة والقوة الفعلية داخل إطار الحياة الواقعى؟، هذا هو التخوف الحقيقى الذى عليك مواجهته، أنت وحدك.. وحدك فقط من يستطيع الخروج من هذه المحطة لاتخاذ القرار.