ربما لا تختلف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي دفعت الشعب المصري إلى الثورة في وجه الفساد والاستبداد، وضد استئثار حزب واحد على السلطة والثروة، وإقصاء أو تهميش القوى السياسية. والعبث بالدساتير وتزوير الانتخابات البرلمانية والرئاسية، سعياً لأبدية الحكم أو لتوريثه في النظم الجمهورية على عكس الإرادة الشعبية، عن الأزمات التي دفعت شعوب دول ما يسمى بالربيع العربي"، باستثناء تونس، إلى الثورة، إلا في شيء واحد هو طبيعة الموقف الوطني لا الحزبي لرجال الجيش المصري، بما حمى الثورة السلمية من الانزلاق إلى الحرب الأهلية، واستجاب لإرادة الشعب وحمى الوطن من المؤامرات الخارجية الفتنوية، بما أثبت مجدداً أن جيش مصر هو سيف الشعب ودرع الوطن. فيما لا تختلف الأزمات التي تواجه مصر بعد ثورة يناير كثيراً عن الأزمات التي تواجه "دول الربيع"، بما فيها تونس، من حيث صعود التيارات الدينية، والصراع السياسي على السلطة مع التيارات الليبرالية واليسارية، والتدهور الاقتصادي الخطير، والتجاذبات الحادة حول صياغة الدستور، وتراجع الاستقرار الأمني، والارتباك العام في المشهد السياسي، إلا في الدور الوطني لا السياسي لرجال القضاء المصري، بحراسته لسيادة القانون، وبوقفاته الشجاعة لحماية استقلال القضاء. ولقد كان المشهد الأخير في مصر بين الرئاسة والقضاء إيجابياً وجنب البلاد تداعيات خطيرة، حين نجح الجانبان في نزع فتيل الأزمة، بدعوة القضاة للرئيس محمد مرسي إلى التراجع عن قراره الصادم الذي ليس من صلاحياته بنقل النائب العام الدكتور عبدالمجيد محمود من منصبه القضائي غير القابل للعزل إلى منصب دبلوماسي، ولهذا رفضه النائب العام وسانده في ذلك جموع القضاة والمحامين والسياسيين في مشهد تضامني تاريخي حفاظاً على استقلال السلطة القضائية التنفيذية فاستجاب الرئيس "احتراماً لاستقلال القضاء"! وبرغم أنها لم تكن الأزمة الأولى بين الرئاسة والقضاء، إلا إنها كانت الأكثر كشفاً والأغنى دروساً عما سبقها من أزمات، والمطلوب ألا تمر مشاهدها المرتبكة دون حساب، فعندما وقعت الأزمة الأولى بأول قرار رئاسي صادم بإعادة مجلس الشعب الباطل بحكم المحكمة الدستورية، بقيت تداعيات القرار محكومة في ساحات المحاكم الثلاث رغم حشود الإخوان المسلمين وغيرهم أمام المحاكم للضغط على القضاء التي لم تجد نفعاً مع إصرار القضاة رفض الخضوع للضغوط، فتراجع الرئيس أخيراً "احتراما ًللحكم القضائي"! إلا أن جانب الخطورة في هذه الأزمة كان سياسياً إخوانياً مجافياً لكل أخلاق إسلامية ولكل قانون وكان ينذر بتداعيات عنيفة غير محكومة، حين تبارى قادة حزب الإخوان "الحرية والعدالة" بتهديد النائب العام، وبدعوة أعضاء الجماعة والحزب للنزول لمنع النائب العام بالقوة من عودته إلى دار القضاء العالي. وفي الوقت نفسه اندفعوا إلى ميدان التحرير احتجاجاً على الحكم القضائي بتبرئة المتهمين فيما سمي بموقعة الجمل، فاشتبكوا مع المعارضين للرئيس واتهموا بتحطيم منصة المعارضة، وسالت الدماء، وانتهى الأمر بانسحاب مهين! لكن للأزمات السياسية والدستورية والقانونية بطبيعة الحال في مصر تأثير أكبر بما لها من حجم أكبر، حيث يتأكد لنا في كل يوم أن في مصر قضاءً، وأن قضاء مصر بسيف العدالة وبقوة القانون هو في النهاية هو الحكم، وأن أحكامه العادلة وإن بدت صادمة، هي المظلة الآمنة والمرجعية الحاسمة للجميع في كل ما واجهته البلاد من أزمات. وربما هناك ملفات شائكة كثيرة تنذر بتداعيات خطيرة ما لم يدرك جميع الأطراف السياسية والشعبية أن المخرج من كل الأزمات هو في احترام الدستور والاحتكام إلى قوة القانون في ساحات القضاء وليس الاحتكام إلى قانون القوة في ساحات الشوارع والميادين. ووسط هذه الأزمة وتلك، بدا أكثر من سؤال على أكثر من لسان فيما يجري في مصر الآن من معارك قانونية وأحكام قضائية ومن سجالات سياسية وقرارات رئاسية، بما يعكس روح المغالبة لا المشاركة، سواء بين التيارات السياسية الدينية والتيارات المدنية حول صياغة الدستور، أو بين الإخوان المسلمين المؤيدين والمعارضين السياسيين للرئيس باستقطاباتها الحادة تطرح السؤال، ما الذي يحكم مصر.. قانون القوة أم قوة القانون؟.. ولمن السيادة في مصر، سيادة الدستور أم سيادة الرئيس؟ إن الدولة الديمقراطية الدستورية بسلطتها المدنية الحديثة التي يريدها الشعب تقوم على الفصل والتوازن والتعاون بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وليس بتغول سلطة على أخرى ولا على الصراع بين السلطات.. وعلى المشاركة الشعبية في صياغة الحاضر والمستقبل بصنع القوانين الوطنية بكل الحرية والمسؤولية، ولا حرية مع الفوضى بقانون القوة، ولا مسؤولية إلا بسيادة وقوة القانون، لكي يظل القانون دائماً أقوى من كل مراكز القوة وأعلى من كل إرادات الساسة. وفي الواقع، فلا حرية ولا عدالة سياسية بلا حرية ولا عدالة اقتصادية، أو بلا حرية وعدالة اجتماعية، ولا ديمقراطية حقيقية بلا احتكام إلى الدستور وإلى سيادة القانون، وبلا احترام لنتائج الانتخابات ولأحكام القضاء، لأن الديمقراطية وسيادة القانون واستقلال القضاء، هم عنوان "الدولة العادلة". نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية